فريدة
الخميس 24/ديسمبر/2020 - 08:57 م
تتميز مدينة الغردقة بطقسها الجميل طوال العام، تستطيع أن تسافر هناك في أي وقت من العام، ترسم بسمائها الزرقاء وبحرها النقي لوحة بديعة تجلب السلام النفسي في القلوب الملوثة بازدحام القاهرة.
يتناول رمزي كعادته كل صباح فنجان قهوته في مكان قريب من البحر، يطلب فنجانين من القهوة، ثم يذهب لمكان أقرب من البحر ويبدأ الحديث والقراءة من مذكرة لا تفارق جيبه.
- الجو النهاردة أحلى من إمبارح.
- فعلاً والبحر هادي، تيجي ننزل المياه.
- لا، خليني قاعد قدامك كدة، أنا بحب أجاي المكان دا كل سنة عشان بس أبص لعنيكي.
- ياااه يا رمزي، لسة بعد العمر دا كله فاكر.
- فاكر بس، طب أقولك حاجة، أنا بقيت أحبك أكتر من زمان بكتير، كل ما بنكبر والشعر الأبيض بيزيد بحبك أكتر.
- لا بس أنا مكبرتش يا أخويا، أنت لوحدك اللي بتكبر.
يبدأ رمزي بالضحك بصوتٍ عالٍ، ثم يميل للأمام ويطبع قبلة في الهواء، ويعود للشالية الخاص به.
يتكرر ذلك يوميًا منذ وصوله هذه المرة، يطلب فنجانين من القهوة، يشرب واحدًا ويترك الآخر، يقرأ في مذكراته على البحر، يضحك بصوت عالٍ ثم يطبع قبلة في الهواء ويعود.
الثلاثاء 22 أكتوبر
بدأ رمزي يومه في العاشرة صباحًا في جلسته المعتادة، انتهى من قهوته وتحرك ببطء نحو البحر، قرر نجل صاحب المقهى أن يستوقف رمزي للسؤال عنه وعن صحته والاستفسار عن شيء يبدو له غريبًا.
- ازي الصحة النهاردة يا أستاذ رمزي.
- بخير الحمد لله.
- يارب دايمًا بخير، والدي موصيني عليك، بيقولي حضرتك بتيجي هنا أنت والمدام من أكتر من 25 سنة.
- دا حقيقي، أنا حافظ كل حبة رمل في المكان هنا، أنا باجي هنا من قبل مانت تتولد تقريبًا.
- ربنا يديك الصحة، كنت بس حابب أسأل حضرتك، هو أنت فعلاً بتطلب اتنين قهوة ولا الولد اللي شغال معايا دا بينسى، أصله بيقولي إنك كل يوم تيجي تطلب اتنين قهوة في نفس الوقت وبتسيب واحد منهم زي ما هو.
ينظر له رمزي في دهشة ويبدأ في الحركة نحو البحر دون أن يرد، بعد أن أنهى عادته اليومية في الحديث والقراءة على البحر وصل الشالية ليجد نجله الأكبر ونجلته الوسطى في انتظاره، لا يحملان أية شنط، مما يؤكد إنهما لن يقيما طويلاً، زيارة عابرة للاطمئنان على صحة والدهما.
- بابا، أزيك يا حبيبي دلوقتي.
- كويس يا بسمة الحمد لله.
- وحشتنا أوي يا بابا، هند مراتي كانت عاوزة تيجي تطمن عليك بس هي في آخر شهور الحمل معرفتش تسافر معانا.
- لا يا مازن ولا يهمك يا حبيبي، المهم إنتو بخير طمنوني عليكم.
- أها يا حبيبي كلنا بخير ناقصنا بس نشوفك دايمًا.
- إن شاء الله هنرجع قريب، هدخل أنا أغير هدومي عشان نتغدا سوا.
يتحرك رمزي نحو غرفته ليلتفت فجأة لهم كأنه نسى شيئًا ويقول:
- محدش يقفل باب الشاليه يا ولاد، ـمكم جاية ورايا بس هي بتحب تمشي على مهلها.
ثم يكمل السير تجاه غرفته، وسط ذهول سيطر عليهما فجأة.
أخبرهم الطبيب النفسي الذي يعالجه منذ شهور أنه يعاني من حالة " الفصام الذهني " التي تجعله يتخيل أحداث وأشخاص وهميين، لكنهم لم يدركوا أبدًا أن الحالة وصلت لهذه المرحلة، فعقله الآن توقف قبل 6 أشهر من الآن، بالتحديد لحظة وفاة زوجته، طلب منهما المغادرة للغردقة وهو ما دعمه الطبيب المعالج للحصول على قسط من الهدوء والراحة، والبعد عن أي ضغوط نفسية.
الأربعاء 23 أكتوبر
بدأ رمزي يومه كالعادة بفنجان قهوة وآخر يتركه كما هو، ذهب تجاه البحر وبدأ يقرأ مذكراته:
" 2005، أتممت الستين عامًا وقررت الشركة إحالتي على المعاش، هكذا أفضل حتى اتفرغ لزوجتي ولأبناء أبنائي، لم اتخيل للحظة إنني سأعيش لأرى أحفادي، تزوجت من ابنه عمي الصغرى بعد عودتي من البعثة التي منحتها لي الكلية في ألمانيا لدراسة ماكينات التشغيل، لم نتزوج عن قصة حب صارخة ولم تكن المشاعر بيننا ملتهبة على الرغم من معرفتي إنها تحبني حتى قبل أن أسافر، ولكنني كنت فقط رجل يتقدم لخطبة ابنة عمه كما يحدث في مئات الزيجات في جنوب مصر، ثم انتقلنا سويًا للقاهرة حيث مكان عملي الجديد، اقنعتني فريدة أن الحب قد يأتي بالعشرة وبالزواج، ولكن هل كل نساء الكون فريدة؟.. بالطبع لا، فهي نوع نادر من النساء، يد تمتد لك وصخرة تقف عليها لتصل لكل أحلامك، لم تكن أبدًا شوكة في ظهري بطلباتها أو مشاكلها، كنت مبذرًا جدًا، ولا أعرف معنى الإدخار، حتىى رزقنا الله بمولودنا الأول، أقنعتني أن هذا المال أصبح يخصه هو الآ لا يخصنا وأن علينا أن نؤمن له مستقبلاً جيدًا، علمتني كيف أحب أبنائي وكيف أرعاهم، رأيت أجمل نساء العالم في رحلاتي طوال فترة العمل، كأي رجل تأخذ عينه الفتاة الجميلة، لكنني لم أشعر للحظة إنني رأيت أجمل منها، كيف أصبحت أحبها كل هذا الحب على الرغم من زواجنا التقليدي؟، كيف تستطيع ضحكتها ولمستها لي في وقت الحزن أن تمسح الكآبة عني، عشت قبلها قصة حب كنت متخيل أن قلبي لن يدق بعدها أبدًا، لتأتي تلك الفتاة الفريدة السمراء ذات العيون العسلية الواسعة لتثبت لي أن كل ما سبقها كان مراهقة لا ترتقي أبدًا لمفهوم الحب، أتمنى أن أموت قبلها وتقرأ هي تلك الكلمات، أتمنى أن تكون آخر وجه تراه عيناي قبل الوداع".
انتهى رمزي من قراءة جزء من مذكراته على شواطئ البحر وقرر العودة للمنزل وهو يضع على كتفه الشال الخاص بها ويتكأ على العصا التي أهديتها له قبل وفاتها بشهو، مر أسبوعان، يبدأ يوم لينتهي ويبدأ غيره ورمزي على حاله، يكرر ما يفعله يوميًا دون ملل، ولكن فجأة قرر اليوم أن يكتب لها، لن يستكمل قراءة مذكراته.
" كتب إليكي يا حبيبتي من الغردقة، أجلس في مكانك المفضل، أعلم إنك لست هنا، علمت ذلك مؤخرًا، كنت انتظرك تنتهي من قهوتك كل يوم، لكنها ظلت كما هي، لم أصدق من حولي، اتهمتهم بالجنون، فترة طويلة كنت لا أعلم فيها من المريض، أنا أم هم؟، قررت أن أسافر معك لمكاننا المفضل، اسمعكٍ، كنت فقط من يسمع صوتك، لم آخذ صورة لكي لأنك ببساطة كنتي معي طوال الرحلة من القاهرة إلى هنا لم أشعر بغيابك، لكن قهوتك كما هي، ملابسك التي أحضرتها معي مرتبة و لم تستخدم، أشعر بلمسة يداكي ولكني مازلت أشعر بخشونة يدي لا نعومة يداكي المعتادة، اكتشفت إنني أصبحت وحيدًا، بالوقت أصدق إنكٍ تركتيني، اتأكد من نهاية الرحلة، الآن تمنيت أن أظل مريضًا حتى أسمع صوتك وأرى طيفك أمامي، أحبك كثيرًا".
يقطاعه رنة تليفونه:
- أيوة يا مازن.
- هند ولدت يا بابا الحمد لله ، بنت زي القمر.
- مبروك يا حبيبي، سموها فريدة.