الجمعة 22 نوفمبر 2024 الموافق 20 جمادى الأولى 1446
رئيس التحرير
حازم عادل
مقالات الرأى

في مديح "غزة"

السبت 01/يونيو/2024 - 02:54 ص

قبل أسبوع من اليوم، وعلى مرمى حجر من استشهاد الجندى المصرى "رمضان عبدالله" بالرصاص "الإسرائيلى" عند "معبر رفح"، نشرت مقالا بعنوان "مصير كامب ديفيد"، قلت فيه بالنص أنه "قد لا تصل تطورات اللحظة الخطرة إلى حد استئناف مصر لسيرتها التاريخية، ولا إلى إعلان مصر حربا شاملة ضد كيان الاحتلال الإسرائيلى، ولكن كل ما هو دون ذلك يبدو وارداً، وفى صورة إجراءات أمنية وعسكرية بطابع تصاعدى"، وجاء ارتقاء الجندى الشهيد ليؤكد صواب ما ذهبنا إليه، فقد كان الشهيد بإطلاقه النار على قوات الاحتلال "الإسرائيلى" فى الجانب الآخر، ينفذ بدقة تعليمات قيادته، ونثق برغم قيود السياسة الرسمية ، أن دم الشهيد لن يذهب هدرا، وأن الحادث لن يكون الأخير من نوعه، وفى أجواء توتر واختناق علاقات القاهرة و"تل أبيب"، وعلى نحو ما عرضنا تفاصيله فى مقال الأسبوع الفائت .


 وإلى أن تتجدد دورة حوادث النار عند الحدود، يبقى صوت ملحمة "غزة" لا يعلو فوقه صوت، فقد تحولت "غزة" الصغيرة بشريط أرضها الضيقة، المحاصرة المختنقة من كل اتجاه، المشتعلة بحمم النار فوق رأس أهلها، المعانية لحرب إبادة جماعية غير مسبوقة فى التاريخ الإنسانى، تحولت "غزة" هذه إلى قلب نابض بتحولات الدنيا كلها، وأيقظ عذابها ضمائر العالم النائم، وصار صمودها الأسطورى أيقونة أحرار العالمين، فقد يقال لك أن "غزة" دمرت عن بكرة أبيها، وأن 130 ألفا من "الغزيين" فى عداد الضحايا، وأنه لم يبق فى "غزة" من جدار باق، وأن أغلب البيوت والشوارع والمساجد والكنائس والمستشفيات والمخابز والمدارس والجامعات تحطمت فى زلازل تدمير شامل، فوق شلالات الدماء التى سالت وتسيل، ومحارق الأجساد التى تحولت إلى أشلاء، وكل هذا صحيح ومحزن ومأساوى، وأفرغ العيون من الدموع، لكن الصحيح بالقدر نفسه، أن سحق كل موارد الحياة فى "غزة"، وكل هذه المجازر والقتل والتشريد والتجويع والتعطيش، لم تطفئ أبدا بريق إلهام "غزة"، ولا مقدرتها الإعجازية على مواصلة الحياة، وكأنها أول الخلق العفى، وكأن أرض "غزة" هى الحياة نفسها، وكأن تجريد "غزة" من كل شئ، لا يبدل هويتها ولا طباعها النورانية، ولا ينتقص من زاد حضورها المتدفق، فهى تنهض دائما من تحت الركام، وتعلمنا أن الحياة قرار الناس لا صناعة الظروف، وأن "العروة الوثقى" التى تربط البشر بأرضهم المقدسة تعلو فوق كل المحن، فرغم نزوح أغلب "الغزيين" من أرضهم إلى أرضهم لخمس مرات على الأقل عبر ثمانية شهور من حرب الإبادة، إلا أن التيار الرئيسى الغالب بين الفلسطينيين فى "غزة"، لا يفكر أبدا فى ترك "غزة" إلى غيرها من بلاد الله، وهم النازحون المهجرون أصلا من قلب فلسطين المحتلة فى نكبة 1948، وتوارثوا العذاب عن الآباء والأمهات والأجداد، ووقر فى قلوبهم، أنه لا هروب من أرضهم إلا لأرضهم، وأن الخروج من فلسطين يعنى أنه لا عودة إليها، وربما يفسر ذلك بعضا من تكوين "غزة" المستعصى على الكسر، وقد كانت دائما مركزا لتأسيس وصعود أبرز حركات المقاومة والفداء الفلسطينى، ففى "غزة" أعلى وأصفى تركيز لخلاصة المحنة الفلسطينية الفريدة، وفيها أعلى كثافة بشر وأرقى نزوع للتحرير، ومنها خرجت الأنوية الأولى الأصلب، من سيرة "فتح" إلى أيام "حماس"، وفى "غزة" يعرفون، أن الموت ليس معادلا للفناء بالضرورة، ويعرفون قيمة أن تختار موتك، وأن تجعل اختيار موتك سبيلا إلى حياة لا تفنى، وهو ما يفسر سلاسة اختيار الاستشهاد فى "غزة" قبل غيرها، فالموت مصير كل حى، وفى "غزة" ينتظرهم الموت عند كل شبر أرض وفى كل شمة هواء، لكن الفارق عندهم هائل بين موتين، الموت كضحية تحت أحجار جدار، أو الذهاب إلى الموت اختيارا لتكسب الخلود لنفسك والكرامة لأهلك والعزة لوطنك، وفى تقارير أمريكية نشرت أخيرا من دوائر "البنتاجون" وغيرها، كانت دهشتهم عظيمة مما يجرى فى "غزة"، ومما آلت إليه "كتائب القسام" وغيرها من حركات المقاومة، كانت التقارير الأمريكية السابقة أكثر احترازا فى تقدير خسائر "حماس" وأخواتها، وكانت تعترض على مبالغات حكومة الاحتلال "الإسرائيلى" وأجهزة استخباراتها، وكانت تكذب مزاعم "إسرائيل" بأنها قضت على عشرين من "كتائب القسام"، وأنه لم تتبق سوى أربعة كتائب، يذهبون إلى "رفح" بدعوى تصفيتها، وكانت التقارير الأمريكية تتحدث عن أرقام أقل لخسائر "حماس" و"القسام"، وعن بقاء أغلب شبكات الأنفاق الحربية الفلسطينية سليمة، وهو ما عادت التقارير الأمريكية الأحدث لتأكيده، وإن خفضت نسبة الأنفاق التى ظلت على حالها الأول إلى 65% من المجموع، لكنها ـ أى تقارير البنتاجون ـ اكتشفت ما تصورته مفاجأة كبرى، هى أن عدد المقاتلين فى "حماس" وغيرها زاد ولم ينقص، وأن حركات المقاومة استقبلت آلافا جديدة من المقاتلين، استعاضت بجهدهم عن آلاف ارتقوا إلى مقام الشهادة العظمى، وهو ما يعنى ببساطة، أن مددا جديدا من شباب "غزة" التحقوا طوعا واختيارا بسلك القتال ، فقد رأوا بأعينهم هول زلازل التدمير وطوفان الدم ، وفى لحظة الاختيار الحاسم ، رفضوا انتظار الموت قعودا كضحايا ، وذهبوا إلى اختيار القتال كشهداء تحت الطلب ، يضيفون إلى آيات المقاومة الفلسطينية الراهنة ، وهى سليلة مقاومة من نوع مختلف ، توالت مشاهدها فى العقود الثلاثة الأخيرة ، وامتازت بالحس الاستشهادى الإيمانى المطلق ، ودخلت الميدان بمعنى الاستشهاد كأعلى قيمة إنسانية ، قارعت بها ما يملكه العدو من أرقى تكنولوجيات الحرب ، ثم أضافت للقيمة الاستشهادية تكنولوجيا سلاح من صنع أيديها ، وفنون قتال مذهل ، قهرت وتقهر بها جيش الاحتلال فى أطول حرب يخوضها ، واستنزفت دم نخبة جنوده وضباطه ، ودمرت أقوى دباباته وآلياته بالآلاف ، وفاجأته من حيث لا يحتسب ، ومن أنفاق تحت الأرض ، ومن أنقاض المبانى فوق الأرض ، وأعجزته عن تحقيق أى نصر بأى معنى ، رغم التفاوت المادى الرهيب بين ما يملكه العدو "الإسرائيلى" الأمريكى ، وما تملكه المقاومة من متاع السلاح القليل المتواضع ، الذى حوله النبل والفداء والذكاء الإنسانى إلى سلاح فتاك لا يقهر ، فوق الحفاظ على أداء قتالى غاية فى الانضباط والدقة والتخطيط ، جعل المقاومة تقاتل إلى اليوم كتنظيم جماعى محكم ، ظل إلى اليوم يحوز مزايا القيادة والسيطرة ، تتحرك فيه الأوامر والكتائب بسلاسة مدهشة من الجنوب إلى الشمال وبالعكس ، ويصوغ مثالا لا يبارى من الحروب غير المتناظرة ، لا تفتر عزيمته أبدا ، وعلى نحو ما شهدناه فى الأيام والأسابيع الأخيرة ، وما تبدى فيها من مقدرة قوات المقاومة على إدارة المعارك فى شمال "غزة" وجنوبها بالوقت نفسه ، ومن "رفح" إلى "النصيرات" و"بيت حانون" و"الزيتون" و"بيت لاهيا" و"جباليا" ، وامتلاك زمام المبادرة ، واستعادة روح وجرأة ما جرى صباح السابع من أكتوبر الطوفانى ، والإبداع المتقن فى نصب الكمائن المركبة ، واستدراج قوات العدو إلى فتحات الأنفاق مجددا ، وقتل فريق من قوات النخبة "الإسرائيلية" وأسر فريق آخر ، كما جرى فى "جباليا" أخيرا ، وكان دفع العدو لألوية جديدة فى "غزة" ، وعودته إلى أماكن الغزو البرى الأولى فى شمال "غزة" وفى وسطها ، كانت العودة "الإسرائيلية" فرصة جديدة لقوات المقاومة ، تخوض فيها عمليات القتال من المسافة صفر ، وتحول دون استفراد العدو بمكان بذاته ، وتشتت انتباهه وتركيزه ، وتغرقه فى رمال "غزة" ، وتضاعف حيرة جنرالاته فى حروب المتاهة ، فقد استحالت "غزة" الصغيرة إلى دنيا بلا نهاية لا متدادها ، وتضاعفت مساحتها مرات فوق الأرض وتحت الأرض ، وتأكدت استحالة تحقيق العدو لأى نصر ، فلا هو يجد سبيلا متاحا للقضاء على "حماس" التى تتكاثر ، ولا هو يستطيع الوصول لأسراه على قيد الحياة ، بل أن قوات النخبة الإسرائيلية الذاهبة لإنقاذ الأسرى ، تلتحق هى الأخرى بمصائر الأسر نفسه ، وفى حروب "الدائرة المفرغة" التى دخلتها "إسرائيل" بأحدث أسلحتها الأمريكية ، لا تبدو من نهاية تشبه ما خططوا له ، فيما نجحت المقاومة فى تفجير تناقضات متزايدة وراء خطوط العدو ، فالهزيمة يتيمة بطبعها ، و 77% من "الإسرائيليين" صاروا يجزمون أنهم خسروا الحرب ، وقادة العدو يتقاذفون الاتهامات بالمسئولية عن الخيبة ، فيما تعزز مقاومة "غزة" من مكاسبها ، تدفن الشهداء وتمسح الدموع وتقاتل ، وتكسب للقضية الفلسطينية تعاطفا وتأييدا عالميا غير مسبوق ، وتكسب للرواية الفلسطينية أرضا متسعة فى الغرب عقر دار الحركة الصهيونية تاريخيا ، وبثمن مدفوع من دم "الغزيين" الصامدين ومقاومتهم العبقرية الأوصاف .


[email protected]