بعد مفاوضات "غزة"
أكتب هذه السطور وقت بدء الجولة الأخيرة من مفاوضات "صفقة غزة" فى القاهرة، ومن دون رغبة فى المصادرة على المطلوب، لا يبدو أن شيئا جوهريا تغير، ولا أن المآلات قد تختلف عما جرى فى مكوكيات التفاوض عبر شهور طويلة ، وقبل أسابيع ، كتبت فى هذا المكان نفسه مقالا بعنوان (لا صفقة فى غزة) فى تاريخ 13 يوليو الفائت ، وقتها لم يكن "بنيامين نتنياهو" ـ رئيس وزراء العدو ـ قد قام بعد بزيارته الشهيرة إلى الكونجرس الأمريكى ، ولا ألقى خطابه المثقل بالأكاذيب فى حضرة أعضاء الكونجرس بمجلسيه ، ولا قوطع خطابه بعشرات المرات من التصفيقات الغبية الحارة ، ولا كان الرئيس الأمريكى "جو بايدن" أعلن انسحابه من السباق الرئاسى الجديد مع غريمه "دونالد ترامب"، ولا كان "نتنياهو" قد حظى بتسابق "بايدن" ونائبته وبديلته "كامالا هاريس" وخصمهما "ترامب" إلى لقائه، وفى صور متلاحقة، صنعت وضع "نتنياهو" الجديد كرئيس لحكومتى "إسرائيل" فى "تل أبيب" و"واشنطن" معا، وكحاكم أعلى للإدارة الأمريكية فى أضعف مراحلها ، وهى ترجوه أن يوافق على ما أسمى "الاقتراح الأمريكى المحدث" ، ولم يكن بأثر مما جرى ، سوى "تحديث" عبثى ، يدرج شروط "نتنياهو" المعلنة فى صلب الصفقة المطروحة.
ورغم تفاؤل مصنوع ، أبدته الإدارة الأمريكية خلال الأسبوعين الأخيرين ، إلا أن النتائج لم تختلف عن سابقاتها، فقد نحت إدارة "بايدن" باللوم على حركة "حماس" وأخواتها كالعادة ، برغم أن "حماس" أبدت مرونة ظاهرة لم تتراجع عنها، ووافقت فى 2 يوليو الماضى على الصيغة التى نقلها الوسطاء المصريون والقطريون ، ووافقت قبلها على ما أسمى "صفقة بايدن" المعلنة فى 31 مايو الماضى، وعلى قرار مجلس الأمن رقم 2735 المتضمن لعناصرها الأساسية، أى لوقف الحرب والانسحاب "الإسرائيلى" الكامل من قطاع "غزة" وعودة النازحين من جنوب القطاع إلى شماله، فيما داوم "نتنياهو" على رفض وقف الحرب من حيث المبدأ، وعلى رفض الانسحاب من محور "فيلادلفيا" (عند الحدود مع مصر) ومحور "نتساريم" الفاصل بين شمال القطاع ووسطه وجنوبه، وأراد حصر النقاش كله فى عنصر تبادل الأسرى، وربما وقف إطلاق نار موقوت لستة أسابيع ، هى عمر المرحلة الأولى من الصفقة، وشطب المرحلتين الثانية والثالثة، وهو ما بدت الإدارة الأمريكية عند سمعه وطاعته ، وأعدت ما أسمته "الاتفاق المحدث" لتلبية أوامر "نتنياهو"، وضغطت بما أسمته سد الفجوات واتفاق الفرصة الأخيرة، وسعت لدفع الوسيطين المصرى والقطرى للضغط على حركة "حماس" ، ولم تسفر المساعى كلها عن جديد، رغم تولية "يحيى السنوار" قيادة "حماس" خلفا للشهيد "إسماعيل هنية".
صاحب القرار
فقد كان "السنوار" طوال وقت الحرب هو صاحب القرار الفصل دائما ، وكل ما جرى ، أن مركز القرار الفعلى صار هو المركز الرسمى ، وصيغة 2 يوليو التى وافقت عليها "حماس" زمن " هنية" ، كانت هى ذاتها التى عادت إليها "حماس" فى عهد "السنوار" ، وكان طبع المرونة فيها تكتيكيا ، دار حول سحب ذرائع الخصم الأمريكى "الإسرائيلى"، وتعلق بفسح مدة التفاوض خلال المرحلة الأولى حول ترتيبات وتفاصيل المرحلة الثانية ، التى كان يفترض فيها إطلاق سراح العسكريين "الإسرائيليين" المحتجزين مقابل كبار الأسرى من الفلسطينيين، وإكمال الجلاء "الإسرائيلى" عن قطاع "غزة" ، بما فيها الانسحاب من المناطق العازلة الحدودية ، ووقتها رحبت الإدارة الأمريكية رسميا بمرونة "حماس" ، ثم عادت لتنكرها ، مع فرض شروط جديدة فى الأسبوعين الأخيرين ، تتملص من انسحابات جيش الاحتلال المفترضة فى المرحلة الأولى ، وبالذات من محورى "فيلادلفيا" و"نتساريم" ، وهو ما كان سببا لاستياء الوسيط المصرى ، الذى صمم على انسحاب "إسرائيل" بالكامل من محور "فيلادلفيا" ومعبر "رفح" على الجهة الفلسطينية ، واعتبر وجود قوات الاحتلال فى هذه المناطق خرقا لما يسمى "معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية" وملحقاتها ، ودهسا لاتفاقات مصرية "إسرائيلية" عقدت عام 2005 مع الجلاء "الإسرائيلى" وقتها عن "غزة" ، ونصت على عدم وجود قوات "إسرائيلية" فى محور "فيلادلفيا" ـ ممر صلاح الدين ـ على الجهة الفلسطينية ، وعلى تنظيم إدارة معبر "رفح" ، وعلى أن يكون الفلسطينيون ـ دون غيرهم ـ هم المسئولون عن إدارة المعبر على الجانب الفلسطينى ، وقد فشلت محاولات "إسرائيل" فى تخفيف صيغ الرفض المصرى ، الذى لم يستجب أيضا لصيغ أمريكية ، تحدثت عن تخفيف الوجود "الإسرائيلى" لا إزالته بالكامل ، لكن الإدارة الأمريكية تجاهلت ما يجرى كله.
وأعلن وزير الخارجية الأمريكى "أنتونى بلينكن" فى ختام زيارته للعاصمة القطرية "الدوحة" ، أن "إسرائيل" وافقت على الاتفاق المحدث "الإسرائيلى" الأصل ، ودعا لزيادة الضغط على "حماس" لإعلان موافقتها ، بينما كان الرئيس الأمريكى المنسحب يتحدث فى مؤتمر حزبه الديمقراطى ، ويعلن فى تبجح ، أن "حماس" تتراجع عن الاتفاق ، وكأنه أصبح شاهدا "ما شافش حاجة" ، أو كأنه لا يعرف أصل العلة فيما جرى من تعثر، وأن أمريكا تقدم نفسها زورا كوسيط ، بينما هى الخصم الصريح للفلسطينيين والشريك الأصرح للعدو "الإسرائيلى" وشروط "نتنياهو" المعلنة ، واقتصر دورها على ترجمة شروط "نتنياهو" من العبرية إلى الإنجليزية ، وبدعوى أن واشنطن ـ كما قال "بلينكن" ـ تعترض على وجود احتلال "إسرائيلى طويل الأجل" فى قطاع "غزة" ، ومن دون أن يعرف أحد بالضبط معنى تعبير "طويل الأجل" ، وكأن احتلال القطاع لسنوات مقبلة مما لا تنطبق علية صفة "طول الأجل" بالمفهوم الأمريكى المخاتل.
والمحصلة ظاهرة بوضوح قاطع، فما جرى فى غرف التفاوض العبثى، هو ذاته ما يجرى فى ميادين القتال وحروب الإبادة الجماعية للفلسطينيين المدنيين العزل، وقد اقترب رقم الضحايا إلى المئة والخمسين ألفا بين شهيد وجريح ومفقود فى "غزة" وحدها، ولم تكن واشنطن ـ فى أى وقت ـ وسيطا بأى معنى ، بل كانت الخصم والعدو طوال الوقت، وفى ذروة اصطناعها لتفاؤل موهوم بالمفاوضات الأخيرة، كانت واشنطن تعلن عن صفقة أسلحة جديدة لكيان الاحتلال بقيمة 20 مليار دولار، تضاف لأسلحة وذخائر سبقت بعشرات المليارات الأخرى ، كانت ولا تزال سببا رئيسيا لزلازل الدمار وشلالات الدماء فى "غزة"، ومن دون أن يفلح الرئيس الأمريكى الذاهب "بايدن" فى اصطناع براءة تطمس حقيقة انصياعه الطوعى والجبرى لرغبات وشروط "نتنياهو" ، وكذلك تفعل بديلته فى الترشح للرئاسة الجديدة "هاريس"، وهى مثله تذرف دموع التماسيح أحيانا على الضحايا الفلسطينيين، ربما سعيا إلى كسب أصوات لأمريكيين من أصول عربية ومسلمة ، تبدو ضرورية لكسب السباق مع "ترامب" فى الولايات المتأرجحة ، كذا إلى استعادة رهائن "إسرائيليين" محتجزين لدى "حماس" وأخواتها، يحملون الجنسية الأمريكية إلى جوار "الإسرائيلية" ، بينما يزايد "ترامب" على "بايدن" و"هاريس" فى الولاء المطلق لإسرائيل ، ويتحدث عن ضرورة مساعدة "إسرائيل" فى توسيع مساحتها، مع رفض إقامة أى "دولة فلسطينية" طبعا ، فلا صوت يعلو فى واشنطن الرسمية على صوت "إسرائيل"، خصوصا فى هذه الأيام ، ولا شخص ينازع "نتنياهو" فى السيطرة شبه المطلقة على كافة المؤسسات الأمريكية ، وما من حاجة لحديث عن أدلة مضافة ، فالجيوش والغواصات النووية وحاملات الطائرات الأمريكية توالى احتشادها فى المنطقة دفاعا عن "إسرائيل" ، وقد امتنعت طهران عن الرد على جريمة اغتيال "إسماعيل هنية" على أراضيها، وكذلك امتنع "حزب الله" عن الرد عن جريمة اغتيال القيادى "فؤاد شكر" فى ضاحية "بيروت" الجنوبية، وبدت حسابات طهران و"حزب الله" متصلة جزئيا بما كان يجرى من مفاوضات ومناشدات على جبهة "غزة" ، ولم ترد إيران ولا "حزب الله" أراد ، أن يبدو فى وضع المعيق لمفاوضات ، كان عنوانها وقف الحرب والعدوان على "غزة"، وبعد انقشاع وهم التفاوض، صار على "إيران" أن تراجع حساباتها ، وإن كنا لا نولى أهمية حاسمة لرد طهران حتى إن جرى، ونركز بالذات على رد "حزب الله" الألصق جغرافيا بكيان الاحتلال ، والأوثق صلة بقضية فلسطين المقدسة، وصحيح أن غالب سلاح "حزب الله" من مصادر إيرانية ، لكن التجارب أثبتت أن السلاح نفسه بيد فصائل المقاومة العربية أكثر تأثيرا فى الحروب مع كيان الاحتلال ، ثم أن فصائل المقاومة المعنية، أثبتت مقدرتها على تطوير صناعة سلاح ذاتية ، على نحو ما جرى ويجرى طوال نحو 11 شهرا فى حرب "غزة"، صمدت فيها فصائل "حماس" وأخواتها على نحو أسطورى مذهل.
وكما لم يفعل أحد فى تاريخ الحروب كلها مع العدو "الإسرائيلى" الأمريكى ، وقد تعود "حماس" وأخواتها فى الفترة المقبلة إلى تكتيك "العمليات الاستشهادية" فى الداخل الفلسطينى المحتل ، خصوصا مع تصاعد أمارات المقاومة المسلحة فى الضفة الغربية ، وقد يكون ذلك هو الرد الأبلغ بعد انهيار مفاوضات الصفقة.