الخميس 21 نوفمبر 2024 الموافق 19 جمادى الأولى 1446
رئيس التحرير
حازم عادل
مقالات الرأى

حرب الطوفان الثانية

السبت 12/أكتوبر/2024 - 12:59 ص

بدأت سنة "طوفان الأقصى" الأولى بأعظم "هجمة كوماندوز" عابرة إلى قلب فلسطين المحتلة، وبفشل استخباراتى وعسكرى عظيم لكيان الاحتلال ، فيما بدا الانتقال إلى عام الحرب الثانى مختلفا، وخيمت عليه ظلال هجمة معاكسة، وبدت الموازين ومبادرات السلاح ومباغتاته، كأنها تميل هذه المرة بشدة لصالح العدو، الذى حقق إنجازات تكتيكية واستخباراتية ظاهرة، وبالذات على جبهة لبنان ، مع موجة اغتيالات مفاجئة صادمة متواصلة لقادة الصفين الثانى فالأول فى "حزب الله"، وصولا إلى فجيعة اغتيال السيد "حسن نصر الله" ، وبدا كيان العدو فى أحوال نشوة مجنونة، عبر عنها "بنيامين نتنياهو" رئيس وزراء العدو قبل أيام ، حين أعلن متفاخرا متعجرفا "لقد صفينا نصر الله وخليفته وخليفة خليفته". 

 اغتيال عشرات القادة من حزب الله


 ولا ريب أن اغتيال عشرات القادة من حزب الله، واغتيال "نصر الله" بالذات ، يعد خسارة كبرى لجماعة حزب الله ، وهو ما عبر عنه "نصر الله" نفسه قبل اغتياله ، حين اعترف علنا بالأثر الفادح لضربات "البيجر" و"الووكى توكى" واغتيالات قادة كبار بعدها ، وقال "نصر الله" فى آخر خطاباته ، أن الضربات كانت موجعة وثقيلة ، لكن "نصر الله" الذى ذهب بعدها إلى مصيره الاستشهادى، كان واثقا على ما يبدو من قدرة الحزب على تحمل وامتصاص الضربات ، التى أظهرت خروقا أمنية عميقة وواسعة فى بنية الحزب القيادية ، تتخطى حدود وآثار التفوق التكنولوجى الرهيب للعدو الأمريكى "الإسرائيلى"، وتبرز وجود جواسيس على الأرض فى بيئة الحزب ، المعانية لا تزال من خيانات ممتدة بخيوطها من طهران إلى لبنان ، وغفلة "حزب الله" الطويلة عن اكتشاف ومعالجة الاختراقات فى وقت مبكر، وبالذات حين تمدد وجود الحزب ، وتورط فى حروب ومآسى سوريا الداخلية ، وتعرضه لانكشاف مرعب.

 

 

 وقد لا تكون لدى الحزب اليوم فرصة وقت لسد الثغرات ، خصوصا أن العدو فرض عليه وعلى بيئته حربا مهلكة ، فيها آلاف الغارات الجوية التى لا تنقطع ، وتسعى إلى تدمير وإبادة البشر والحجر والشجر على طريقة ما جرى فى "غزة" ، وهو ما هدد به "نتنياهو" علنا ، وخاطب الشعب اللبنانى داعيا إياه إلى ثورة على حزب الله إن أراد تجنب مصائر التدمير الشامل ، وقد لا يشك أحد فى وجود قوى وتيارات داخل لبنان مستعدة لطاعة أوامر "نتنياهو" ، وإن كانت تتخوف من قيامة ثانية لحزب الله ، رغم التجريف الذى جرى ويجرى لبيئته الحاضنة فى الجنوب والبقاع والجبل والضاحية الجنوبية ، ونزوح ما يقارب المليون ونصف المليون من اللبنانيين المؤيدين لحزب الله ومقاومته.

 

 ووسط كل هذا الهول، قد لا تتوافر معلومات كافية عن ما يجرى داخل الحزب ، وإن بدت الأمارات والإشارات، إضافة لكلمات الشيخ "نعيم قاسم" نائب الأمين العام لحزب الله ، وكلها تؤكد استعادة الحزب لتماسكه بسرعة، وإحلال قادة جدد بدلاء عن المغتالين ، والأهم فيما نعتقد ، أن الجهاز الأمنى والعسكرى لحزب الله، لا يزال يعمل بكفاءة وعافية ملحوظة ، لا يمكن تصور حدوثها بغير نظام محكم للضبط والربط، ولا بغير اتصال عمل نظام القيادة والسيطرة، وهذه واحدة من مواريث قيادة "حسن نصر الله"، الذى تحدث مرارا عن القوة العسكرية الضخمة لحزب الله، وقدرها بما يزيد على مئة ألف مقاتل ، وبما قد يصل إلى المئة والخمسين ألفا، وكان يومئ وقتها لعدم احتياج الحزب إلى مدد عسكرى يضاف من خارج الحدود، فوق حيازة الحزب لقوات نخبة فائقة التدريب والاستعداد، وترسانات سلاح متنوع فى المخازن والأنفاق البعيدة عن غارات التدمير ، وأساليب عمل الجناح العسكرى للحزب، تجمع انضباط الجيوش إلى حريات التصرف اللامركزى ، وهو ما بدا ظاهرا فى انضباط الرشقات الصاروخية، والتدرج المدروس فى كثافة ومدى الصواريخ المستخدمة ، التى وصل بعضها إلى "تل أبيب" نفسها ، وإلى مستعمرة "معاليه أدوميم" فى الضفة الغربية ، فى حين تركز أغلبها على شمال فلسطين المحتلة، وصولا إلى"صفد" وتجمع "الكريوت" و"حيفا" وما بعد "حيفا" ، وهو ما قد يعنى غالبا، أن أغلب ترسانة الحزب الصاروخية لا تزال جاهزة ، ويجرى إطلاقها حسب التوجيه المركزى ، وعبر شبكة اتصالات محصنة، لا يعلم أحد وسائلها، ويبدو أن صدمات الاغتيالات المتوالية.

 

أعادت الحزب إلى سيرته السرية الأولى، فلا يبدو الحزب فى عجلة لإعلان تنصيب أمين عام جديد خلفا للشهيد "نصر الله"، بل تبدو روح "السيد حسن" عاملة مؤثرة قائدة فى ميدان المعارك، حيث تحولت حوافز الانتقام للسيد المغدور إلى دفعة معنوية ملهمة لقوات النخبة عند الحدود، وفى مواجهة خمس فرق "إسرائيلية" على حدود القتال البرى، ظلت لأيام طويلة عاجزة عن مجرد اجتياز الحدود ، وبدا مقاتلو حزب الله فى صورة أشباح مخيفة للجنرالات "الإسرائيليين"، تفاجئهم فى الموعد بالضبط ، وتوقع بهم خسائر ثقيلة فى لواءات النخبة، اعترف العدو بالقليل منها، ووصفها مع ذلك بمعارك الأيام الصعبة ، فقد بدأ نزيف الدم الغزير، الذى يخشاه العدو من الاقتحام البرى المخطط لجنوب لبنان.


وفى هذه الأيام اللاهثة، يبدو كيان العدو وإعلامه منتشيا محتفلا بإنجازات جيشه وأجهزة استخباراته ، لكنه يخشى غريزيا، أن تذهب "السكرة" سريعا ، وتأتى "الفكرة" مع مرحلة الحرب البرية، فقد تلعب التكنولوجيا وخطط الاستخبارات أدوارا كبيرة فى الحروب ، لكنها لا تحسم قتالا، وقد ذهبت أيام العدو الزاهية المزهوة بحملات الاغتيالات ، وجاء الدور إلى أيام حزب الله مع غزو العدو البرى، وقد فعلتها "حماس" وأخواتها فى حرب "غزة" طوال عام كامل ، وتواصل قتالها الأسطورى من "رفح" إلى "خان يونس" إلى "بيت حانون" و"جباليا".

 

 وكشفت هزال الأداء القتالى لجيش الاحتلال فى معارك الالتحام والمسافات الصفرية ، ونحسب أن حزب الله يفعلها وسيفعلها لاحقا ، بكفاءة وعتاد أوفر وأكثر تنوعا ، وفى جغرافيا "وطبوغرافيا" أكثر ملاءمة لحروب العصابات والقتال غير المتناظر ، ففيما تبدو "غزة" كجغرافيا محاصرة رملية منبسطة بغير تضاريس للتخفى ، يبدو جنوب لبنان على العكس مثالا نموذجيا، حافلا بالجبال والأحراش والغابات والوديان والتلال ، فوق أن أنفاق حزب الله تحت الأرض، تبدو أوسع وأعمق من شبكات أنفاق "حماس" وأخواتها فى "غزة" ، إضافة لخطوط إمداد موصولة لحزب الله من جغرافيا الجوار، تظل تعمل رغم القصف "الإسرائيلى" المركز على معابر بعينها، وكل متر عبر الحدود صالح للعمل كمعبر تزويد بالسلاح، وهو ما يعنى بوضوح ، أن مخازن سلاح حزب الله قد تكون تأثرت هنا أو هناك ، لكن فرص التعويض المنتظم تظل ممكنة تحت النار ، وعلى غير حالة "غزة"، المحاصرة المغلقة حدودها من كل اتجاه، والفوارق المرئية تعمل لصالح قوات حزب الله.

قوات الرضوان

 وتحملنا على توقع قتال احترافى باهر من "قوات الرضوان" ، الموزعة فرقها على خطوط دفاع منتظمة فى الجنوب اللبنانى حتى نهر "الليطانى" شمالا وما بعده ، ومستعدة لإيقاع خسائر كارثية بقوات جيش الاحتلال ، فدخول قوات الاحتلال إلى الجنوب ، يعنى أن "الغلة" العسكرية زادت فى شباك مقاتلى حزب الله ، وعلى نحو يفوق بكثير ما جرى فى حرب 2006 بالمنطقة ذاتها ، وإذا كانت "حماس" وأخواتها دمرت مئات من دبابات "الميركافا" وناقلات الجند المدرعة ، وقتلت وجرحت آلافا من ضباط وجنود العدو، فإن التوقعات تبدو أكبر فى أحوال القتال المتلاحم مع قوات حزب الله ، مع تحول جبهة لبنان إلى جبهة مشاركة دامية لا مجرد جبهة إسناد ، خصوصا مع تحرر حزب الله تدريجيا من الحسابات المعيقة ، ووضع السيف مباشرة على رقبته ، و"يا  روح ما بعدك روح" كما يقول المثل الشعبى السيار ، وقد نزف الحزب كثيرا من دماء قادته التاريخيين ، وجاءته فرصة الانتقام ، ليس برشقات صواريخ الأدق وأفلام "الهدهد" العائد وحدها ، بل بإغلاق دوائر حساب الدم المفتوح المسفوح ، وتجسيد مقولات "السيد حسن" عن الدم الذى يهزم السيف ، وقد لا يطال الحزب طائرات العدو ، ولا يملك قنابلها الأمريكية بآلاف أطنانها ، لكن الفرصة جاءت مقاتليه مع الغزو البرى ولواحقه ، وبوسعه الآن تصفية الحساب ، وجنى الأثمان من رقاب ضباط وجنود العدو ، ولا شئ يغيظ العدو ويصيبه بالحسرة والقنوط ، سوى القفزات المتلاحقة فى أعداد قتلى الجيش "الإسرائيلى".


 وفى استطلاعات نهاية عام حرب الطوفان الأول ، قال 73% من"الإسرائيليين" ، أن جيشهم فشل فى الحرب مع "حماس" وأخواتها ، والأخيرون لا يزالون فى الميدان ، وفى العمليات الفدائية الاستشهادية خلف خطوط النار ، وإضافة مدد حزب الله وطاقته ، تعنى أن العدو وجيشه بصدد حرب استنزافه على جبهتى الشمال والجنوب معا فى عام الطوفان الثانى .