الخميس 21 نوفمبر 2024 الموافق 19 جمادى الأولى 1446
رئيس التحرير
حازم عادل
مقالات الرأى

لا يأس مع المقاومة

الجمعة 18/أكتوبر/2024 - 11:57 م

عند لحظة كتابة هذه السطور، كان الطيران الحربى "الإسرائيلى" يشن سلسلة غارات عنيفة، استهدفت بيئة "حزب الله"، من قرى الجنوب و"النبطية" والبقاع ، وإلى ضاحية بيروت الجنوبية، التى كان توقف قصفها لأيام ، وبدا جنون الغارات على المدنيين ردا على عملية "بنيامينا" التى نفذها "حزب الله"، وبدت اختراقا لافتا لكل حوائط الدفاع الجوى "الإسرائيلية".

 صالة عشاء الجنود والضباط فى قاعدة بنيامينا

 ووصلت فيها مسيرة "صياد" الانقضاضية إلى صالة عشاء الجنود والضباط فى قاعدة "بنيامينا" لتدريب عناصر "لواء جولانى"، على بعد أكثر من مئة كيلومتر جنوب الحدود اللبنانية مع أراضى فلسطين المحتلة، وكانت عملية احترافية مركبة باهرة، أطلق فيها "حزب الله" عددا هائلا من الصواريخ لإشغال القبة الحديدية "الإسرائيلية" بكافة مستوياتها، وإفساح الأجواء لعبور المسيرة الانقضاضية الذكية إلى هدفها المختار  بعد مراوغات واستراحات فى الجو، وألحقت المسيرة دمارا مباشرا، قتل وجرح أكثر من سبعين عسكريا "إسرائيليا"، وشكلت العملية صدمة قاسية لجيش الاحتلال، الذى كان أعلن قبلها بقليل ـ على لسان الجنرال يوآف جالانت ـ عن تدمير ثلثى قوة الصواريخ والمسيرات فى ترسانة "حزب الله"، وكان رد العدو عشوائيا ملتاثا، لا تفرقة فيه بين مواقع عسكرية ومدنية لبنانية.

 دوي صفارات الإنذار

 وبالطبع، لن تكون عملية "بنيامينا" هى الأخيرة من نوعها ، ولا هى منفصلة عن التطور الكمى والنوعى فى رشقات "حزب الله" الصاروخية ، التى صارت تغطى كل شمال فلسطين المحتلة، وإلى "صفد" و"طبريا"  و"نهاريا" و"عكا" و"حيفا" وما بعد "حيفا"، بل إلى منطقة "جوش دان" أى تل أبيب الكبرى ، وفيها الكتلة الأكبر من "الإسرائيليين"، وبأكثر من أربعة ملايين مستوطن، صاروا جميعا تحت زخات الرعب والخوف المتتابعة، ورهن دوى صفارات الإنذار والذهاب للملاجئ.

 

 

 وانطلقت صفارات الإنذار فى الكيان لأكثر من 25 ألف مرة خلال عام الحرب الأول، وهو ما تتصاعد معدلاته اليوم مع إضافة حرب لبنان إلى حرب "غزة"، ربما مع فارق محسوس، أن "حزب الله" يملك ترسانة من الصواريخ والمسيرات النوعية، التى لا يكتشفها نظام الدفاعات الجوية عند العدو، لا بقبته الحديدية ولا بمقلاع داود، وربما  ولا حتى بنظام "ثاد" الأمريكى للدفاع الجوى، الذى أرسلته واشنطن أخيرا إلى أراضى الكيان، مع طواقم من الخبراء والعسكريين الأمريكيين لتشغيله، وهو مخصص فى الأساس لعمليات مجابهة الصواريخ الباليستية، سواء جاءت من "إيران" أو من "حزب الله" أو من "الحوثيين" فى اليمن.

 اكتشاف المسيرات الانقضاضية الذكية

 لكن نظام "ثاد" لا يفيد فى مواجهة، أو حتى فى اكتشاف المسيرات الانقضاضية الذكية، ولا حتى إسقاط مسيرات الاستطلاع من نوع "الهدهد" ، التى لا تصدر عنها بصمات حرارية ورادارية، وتعود بأمان إلى قواعدها فى لبنان، ومعها صور مفصلة كاملة الوضوح عن بنوك أهداف عسكرية وصناعية ومدنية، فيما بدا "حزب الله" قادرا على إسقاط أضخم وأعقد طائرات الاستطلاع المملوكة للعدو.

 

 وأسقطت دفاعات الحزب قبل أيام طائرتى استطلاع "هيرميز" فى أجواء لبنان ، تضاف إلى أربع سبقتها من طرازات "هيرميز 900" و"هيرميز 450"، وهو ما يشير إلى استرداد "حزب الله" لعافيته العسكرية بعد ضربات العدو الكبرى ، التى قضت على أغلب العناصر القيادية فى صفوف "حزب الله" الأولى والثانية ، قبل وبعد اغتيال السيد "حسن نصر الله" الأمين العام للحزب، وتفاخر رئيس وزراء العدو "بنيامين نتنياهو" مع أبواقه العبرية والعربية، وتبشيرهم المتصل بانهيار "حزب الله" بعد تصفية قادته الكبار، وهو ما لا يوجد عليه دليل ميدانى واحد، اللهم إلا بتضخيم وقائع عادية جدا فى الحرب وميادينها، من نوع أسر مقاتل أو أكثر من "حزب الله"، لكن السلوك الحربى لحزب الله يبدو غاية فى تماسكه وانضباطه، ربما بفضل الإحلال التلقائى للقيادات، والعودة الظاهرة فى هيكل الحزب إلى سيرته السرية الأولى، مع إبقاء عناصر محدودة تحت الضوء النسبى ، على طريقة الظهور المتواتر للشيخ "نعيم قاسم" نائب الأمين العام للحزب.

كلمات مسجلة من أماكن سرية

 وفى كلمات مسجلة من أماكن سرية، وقد جاءت إطلالة "قاسم" الثالثة بعد يوم واحد من عملية "بنيامينا"، وبدا ظهوره هذه المرة متقنا فى تفاصيل الصورة، وفى مضامين الخطاب المستعيد لخط الشهيد "حسن نصر الله" ، وبقوله الملفت بالعامية اللبنانية "حزب الله باق على قلب اللى منو حابب"، كان الخطاب عاكسا لثقة فى النفس مستعادة بسرعة ، ومدعومة بإنجازات ميدانية وصاروخية لحزب الله، تتدافع فى تنفيذ خطط وضعها "نصر الله" نفسه ، وبأساليب متطورة متدرجة إلى أهدافها، وربما بجيل ميدانى قيادى أكثر شبابا، يتقن أكثر وسائل التكنولوجيا الحربية الأحدث ، ويعبر فجيعة غياب القادة الكبار مع اختراقات أمنية، يبدو أن "حزب الله" يحاول تجاوزها ، رغم الانشغال المكثف فى وقائع الحرب الجارية.

 

وقد بدت المعالجات مفيدة إلى حد ما ، وأفشلت ـ مثلا ـ محاولة اغتيال القيادى "وفيق صفا" فى غارتين متزامنتين على قلب بيروت ، وكأن خيوط تجسس بشرى قطعت فى مكان ما ، فوق أن عملية "بنيامينا" ، أوحت بوجود خروق على الجانب الآخر ، تحدثت عنها مصادر "إسرائيلية" أمنية وإعلامية ، أعربت عن دهشتها لدقة استهداف "حزب الله" للقاعدة ، وفى وقت تناول العسكريين لوجبة العشاء ، وفى مبنى الصالة المخصصة بالضبط ، ودون غيره من مبانى كثيرة بالقاعدة ، وبما قد يبرز دورا محتملا لاستخبارات "حزب الله" ، وفشلا مقابلا لأجهزة "الشاباك" و"أمان" و"الموساد".


 وفى جملة حوادث الحرب الجارية على جبهتى لبنان وفلسطين، تبدو إفاقة "حزب الله" سريعة وملحوظة من صدمة "البيجر" وما تلاها من اغتيالات القادة ، وتبدو أيضا مقدرة "حزب الله" على استعادة عافيته الميدانية المتجددة، فبرغم مرور أسابيع طويلة على بدء العدو لحملته البرية فى الجنوب اللبنانى، لم تنجح قوات العدو، وقد زاد عديدها إلى خمس فرق كاملة إلى اليوم، ولم تستطع الذهاب إلى ما هو أبعد من اختراقات محدودة متفرقة على الحدود.

تجمعات قوات العدو

 فيما يبدو نشاط قوات "حزب الله" متدفقا، سواء فى عمليات تدمير ناقلات الجند ودبابات "ميركافا"، والاستخدام المكثف لصواريخ "كورنيت" و"بركان" عبر الحدود، والقصف الصاروخى المتواصل لتجمعات قوات العدو، وإيقاع أعداد كبيرة منهم بين قتيل وجريح فى كمائن مركبة، واستمرار قوات "حزب الله" فى الكمون بالأنفاق، وفى غابات التلال والجبال والوديان، واستدراج قوات العدو إلى عمق الداخل، ربما لتوفير مسرح مثالى لعمليات قنص ضباط وجنود العدو، فيما يلجأ جيش الاحتلال لنشر فيديوهات مبالغ فى قيمتها، عن ضبط أنفاق وذخائر وأسلحة لحزب الله ، لا تشكل سوى عينات من ترسانة الحزب، والهدف "الإسرائيلى" من صناعة أو اصطناع الفيديوهات معروف ، ولن تنجح غالبا فى رفع معنويات جنود العدو وجمهوره، إلا لوقت عابر، فالفارق هائل رهيب بين المعنويات على طرفى الصراع الجارى ، يكفى أن قرية واحدة فى الجنوب اسمها "عيتا الشعب"، تعرضت وحدها لمئات ربما لألف غارة ، إضافة للقصف المدفعى الكثيف ، لكن "عيتا الشعب" وجوارها، تبدو مستعصية على تقدم قوات العدو ، الذى قد يعبرها إلى حيث يلقى أهوال الجحيم ، فى حرب ممتدة الزمن، يفقد فيها العدو ميزات تفوقه الجوى ، وينتقل إلى محنته البرية، وإلى ملاحم القتال من المسافات الصفرية، التى يتفوق فيها مقاتلو "حزب الله" غالبا ، تماما كما فعلت قوات "حماس" وأخواتها فى "غزة" ، ولا زالت تدير الكمائن المركبة لجيش الاحتلال ، من "رفح" إلى "خان يونس" إلى "جباليا".

 

 وفى حرب استنزاف متطاولة، لا يملك جيش الاحتلال أن يكسبها أبدا ، لا على جبهة "غزة" ولا فى جبهة الجنوب اللبنانى ، ولا أن يحقق العدو هدفا لجحيم حربى يصنعه ويحترق بناره ، فلا هو استطاع القضاء على "حماس" وأخواتها فى "غزة" ، ولا هو استطاع استعادة أسراه بالقوة المسلحة ، ولا هو حطم هياكل المقاومة بعمليات الاغتيالات ، ولا هو استطاع خلق شروخ واسعة فى علاقة حركات المقاومة ببيئاتها الحاضنة ، ولا هو استطاع تهجير أهل "غزة" إلى خارج ديارهم المقدسة ، ولا هو سيستطيع تحقيق هدف إعادة مستوطنيه إلى الشمال ، بل العكس هو ما حدث ويحدث ، فقد أصبح سكان الشمال "الإسرائيلى" جميعا تحت نار وخطر صواريخ "حزب الله" ومسيراته ، وربما تضاف مئات الآلاف إلى المئة ألف من مستوطنيه الهاربين ، وربما يكمن الفرق "الثقافى" فى استعداد بيئات المقاومة لتقديم التضحيات إلى غير ما حد ، وتحمل العذاب الأسطورى دفاعا عن حقوقهم الوطنية ، والالتفاف فى كل حال حول جماعات المقاومة الاستشهادية الأسطورية ، فلا يأس مع المقاومة التى لا تهزم ولا تستسلم أبدا.