العالم يبحث متطلبات الاستعداد الجيّد للموجة الثانية من جائحة "كوفيد-19".. تأثير عامل السن مع تراجع متوسط عمر المصابين بكورونا.. عمل دولى مشترك يضمن توزيع عادل لـ"اللقاحات" خاصة بالدول النامية والفقيرة
عكفت العديد من دول العالم منذ الإعلان عن تفشي فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) على اتخاذ التدابير والإجراءات اللازمة للحد من انتشار الفيروس على نطاق واسع بين مواطنيها، وهو الأمر الذي ساهم في إنقاذ أرواح ملايين البشر حول العالم، خلال ما يُعرف بـ"الموجة الأولى" من جائحة كورونا، وإن كان ذلك بتكلفة اقتصادية واجتماعية باهظة.
وفى تحقيق للدكتورة صدفة محمود منشور على موقع مركز
المستقبل للابحاث والدراسات المتقدمة ومقرة دبي بدولة الامارات، أنه مع رفع العديد من الدول قيود الإغلاق الوطني، وإعادة فتح
الاقتصاد، والذي تزامن مع عدم التزام قطاعات عريضة من المواطنين بالإجراءات
الاحترازية، وكذلك مع قدوم فصل الشتاء؛ عادت حالات الإصابة والوفاة جراء الفيروس
للارتفاع مرة أخرى في بعض دول العالم، منذرة بدخولها في "موجة ثانية" من
الجائحة. وهو الأمر الذي يتطلب من مختلف دول العالم اتخاذ التدابير اللازمة
للحيلولة دون أن تتسبب الجائحة في حصاد أرواح المزيد من البشر، ومنع حدوث المزيد
من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية.
مؤشرات متعددة:
هناك العديد من المؤشرات المتواترة من بعض دول العالم على تعرضها
لموجة ثانية من الجائحة، بالإضافة إلى التحذيرات القوية التي أطلقها كبار
المسؤولين في منظمة الصحة العالمية، وذلك كما يتضح فيما يلي:
1- ارتفاع
حالات الإصابة: يشهد العالم ارتفاع حالات الإصابة بفيروس كورونا، والتي تخطت حاجز
الـ"57" مليون حالة إصابة مؤكدة حول العالم وأكثر من 1.3 مليون حالة
وفاة، وفقًا لبيانات جامعة جونز هوبكنز المنشورة في 20 نوفمبر الجاري. وقد بدأت
الموجة الثانية من الجائحة بالفعل في عدد من دول أوروبا، مثل: المملكة المتحدة،
وروسيا، وفرنسا، وإسبانيا، وإيطاليا، وألمانيا. وحتى الآن، سجلت أوروبا أكثر من 15
مليون إصابة مؤكدة، وما يزيد على 354 ألف حالة وفاة جراء كورونا. لتكون بذلك
مسؤولة عن 28% من الحالات العالمية و26% من الوفيات.
وتخطى عدد الإصابات بـ(كوفيد-19) عتبة العشرة ملايين في أمريكا
اللاتينية والكاريبي، وتجاوزت حصيلة الوفيات بها 366 ألفًا، وذلك في شهر أكتوبر
الماضي.
وأصاب فيروس كورونا أكثر من 3.6 ملايين شخص، وأدى إلى وفاة 76 ألف
شخص في منطقة الشرق الأوسط خلال الأشهر التسعة الماضية، وتقع أكثر من 60% من
الإصابات الجديدة في إيران. كما ارتفعت الحالات في الأردن، والمغرب، ولبنان،
وتونس، وباكستان.
2- إعادة
فرض الإغلاق الوطني: مع تصاعد وتيرة الموجة الثانية من الجائحة في أكتوبر الماضي،
أعادت معظم الدول الأوروبية فرض مستويات مختلفة من القيود للحدّ من انتشار
الفيروس. وكان من بين هذه التدابير إغلاق الحانات والمطاعم لفترات زمنية محددة،
وتخفيض الطاقة الاستيعابية لمراكز التسوق والصالات الرياضية، وتعليق الدراسة في
الجامعات وكذلك المسابقات الرياضية، وحظر التجول لفترات معينة.
إلى جانب ذلك، اتجهت بعض الدول إلى إعادة فرض الإغلاق الوطني، ومنها:
فرنسا، وبريطانيا، وباكستان، والنمسا، وأيرلندا، بالإضافة إلى فرض إغلاق جزئي
وقيود على التجمعات في ألمانيا، وبعض المدن الكندية، كما طبّقت إسبانيا وإيطاليا
قيودًا على السفر، وأعلنتا حظر التجول.
وفي الوقت نفسه، قررت السلطات اللبنانية في العاشر من أكتوبر الماضي،
فرض عزل كامل لمدة أسبوع على 169 قرية ومنطقة، بعد أن سجلت معدلات قياسية للإصابة
بالوباء. وفي الأردن طبقت المملكة عزلًا عامًا في نفس الفترة كانت مدته 48 ساعة.
كما أعلنت المملكة المغربية تمديد حالة الطوارئ المفروضة منذ مارس الماضي. وأقرت
السلطات التونسية فرض حظر التجوال في محافظات تونس الكبرى لمدة خمسة عشر يومًا.
3- تحذيرات
طبية دولية: حذّرت منظمة الصحة العالمية من أن هناك ستة أشهر "صعبة" في
انتظار أوروبا، التي أصبحت مرة أخرى بؤرة الجائحة، إلى جانب الولايات المتحدة. ومع
اقتراب فصل الشتاء وارتفاع حالات الإصابة بفيروس كورونا في جميع أنحاء الشرق
الأوسط، حذر المدير الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية "أحمد المنظري"، من
"موجة ثانية" للوباء، معتبرًا أن الطريقة الوحيدة لتجنب أعداد الوفيات
الكبيرة هي "تشديد القيود بسرعة".
وفي الوقت نفسه، حذّرت مديرة إفريقيا في منظمة الصحة العالمية
"ماتشيديسو مويتي"، من أن إفريقيا تواجه "لحظة حاسمة" في
حربها على تفشي جائحة (كوفيد-19) مع ارتفاع أعداد الإصابات والوفيات بعد تخفيف
إجراءات الإغلاق والقيود على السفر.
خصائص مميزة:
يُثير الحديث عن "موجة ثانية" من جائحة كورونا، تساؤلات
عديدة حول جوانب الاختلاف بينها وبين "الموجة الأولى"، وهو ما يمكن عرضه
على النحو التالي:
1- ارتفاع
حالات الإصابة: كشفت دراسة جديدة نُشرت في دورية "ساينس" عن أن نسخة
جديدة متحورة من فيروس كورونا، يُطلق عليها اسم D614G، هي المسؤولة عن 85% من حالات (كوفيد-19) في
العالم، ويعتقد الباحثون أن هذا التعديل الجيني للفيروس يجعله أكثر عدوى وأسرع
انتشارًا على مستوى العالم.
ومن الملاحظ أنه خلال الموجة الأولى في فرنسا، وصلت أعداد الحالات
الجديدة اليومية في البلاد إلى ذروتها بأكثر من 7500 حالة في 31 مارس الماضي. أما
خلال الموجة الثانية، فتم تسجيل ذروتها الجديدة في 11 أكتوبر الماضي مع 26675 حالة
جديدة، أي أعلى بثلاث مرات من الذروة الأولى.
وبالمثل، فخلال الموجة الأولى سجلت المملكة المتحدة ذروتها عند 7860
حالة يومية في 10 أبريل الماضي، والتي قفزت إلى ذروتها الجديدة عند 17540 في 8
أكتوبر الماضي.
2- انخفاض
حالات الوفاة: خَلُص بحثٌ أجراه فريق في جامعة نورث كارولينا إلى أن التغيير
الجيني لفيروس كورونا، أو النسخة الجديدة المتحورة منه، قد حدّت من فتكه ومن أن
يؤدي إلى أعراض حادة، مما جعل الفيروس يحصد أرواح أعداد أقل من الناس في المتوسط
خلال الموجة الثانية.
إضافة إلى أن متغير السن يلعب دورًا مهمًا؛ إذ إن الموجة الأولى طالت
كبار السن في أوروبا بشكل خاص، لتنتشر في المستشفيات ودور الرعاية، لكن تغير ذلك
خلال الصيف، مع انتشار الفيروس بشكل أوسع بين الشباب، الذين يتمتعون في الغالب
بمناعة أقوى.
وطبقًا للمركز الأوروبي لمكافحة الأمراض والوقاية منها، تراجع متوسط
عمر المصابين بالعدوى في أوروبا من 54 عامًا في الفترة من يناير إلى مايو الماضي،
إلى 39 عامًا في يونيو ويوليو الماضي.
3- الأطفال
والشباب الأكثر تضررًا: تُشير بعض الدراسات إلى أن الأطفال والشباب أكثر عرضة
للإصابة بفيروس كورونا خلال الموجة الثانية، مقارنة بالبالغين. وقد أظهرت دراستان
رئيسيتان للمراقبة أجراهما مكتب الإحصاء الوطني (ONS) وإمبريال كوليدج بلندن أن الإصابات
بين الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 16 و24 عامًا كانت تتزايد في سبتمبر الماضي،
وبحلول شهر أكتوبر الماضي تم تسجيل ارتفاع في أعداد الإصابات في جميع الفئات
العمرية من 2 إلى 24 عامًا في المملكة المتحدة. مما يعني أن الأطفال الذين تتراوح
أعمارهم بين 12 و16 عامًا لعبوا دورًا كبيرًا في نقل العدوى إلى المنازل خلال
الفترة التي أعادت فيها المدارس فتح أبوابها لجميع الطلاب.
متطلبات الاستجابة الجيدة:
مع قدوم فصل الشتاء، من المتوقع أن يتسبب فيروس كورونا الذي يتزامن
مع انتشار حالات الإصابة بالإنفلونزا الموسمية، في مضاعفة الأعباء الملقاة على
عاتق المستشفيات ومرافق الرعاية الصحية الأخرى، وهو ما يتطلب من كافة الدول اتخاذ
الإجراءات اللازمة، التي تمكنها من الاستعداد الجيد والاستجابة الناجحة للموجة
الثانية من الجائحة، ومنها على سبيل المثال:
1- الالتزام
بالتدابير الاحترازية: منحت الإعلانات الصادرة عن بعض شركات الأودية عن قرب موعد
التوصل إلى لقاح فعال للفيروس، بارقة أمل للعالم أجمع، غير أن إنتاج هذا اللقاح
وتوزيعه على نطاق واسع ليصل إلى مختلف دول العالم، خاصة الفقيرة منها، سوف يستغرق
شهورًا طويلة، وهو ما يتطلب من الجميع الالتزام بمستويات عالية من الامتثال
لتدابير الصحة العامة وغيرها من التدخلات الحكومية، باعتبارها جزءًا من الالتزام
بالصالح العام على حساب الحريات الفردية.
2- الموازنة
بين الاعتبارات الصحية والاقتصادية: أدى الإغلاق المطول للاقتصادات إلى خسارة تقدر
بأكثر من 12 تريليون دولار في الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وعانى ما يقرُب من
ثلث سكان العالم من البطالة. ومن المتوقع أن يشهد أكثر من 95% من البلدان نموًّا
سلبيًّا في دخل الفرد في عام2020 .ومع ذلك، فقد أعلن مدير شؤون قارة أوروبا في
منظمة الصحة العالمية "هانز كلوغ"، أن بإمكان الناس تجنب قيود الإغلاق
الأكثر صرامة، إن كانوا أكثر استعدادًا للالتزام بالتوصيات. وأوضح كلوغ: "إن
وصل وضع الكمامات لنحو 95%، فلن تكون هناك حاجة لأي إغلاق. لكن نظرًا لأن نسبة
استخدام الكمامات 60% أو أقل حاليًّا، فمن الصعب تجنب الإغلاق".
وفي هذا الإطار، يمكن التوسع في استخدام التقنيات الرقمية في العمل
والتعليم والتسوق وغيرها، والتي يمكن أن تُسهم في الحد من التداعيات السلبية لقيود
الإغلاق الوطني.
3- التعلّم
من تجارب الدول الأخرى: في الوقت الذي تُعاني فيه الدول الأوروبية من موجة ثانية
من الفيروس، سجلت العديد من دول جنوب شرق آسيا نجاحات ملحوظة في الحد من انتشاره؛
إذ أبلغت فيتنام وتايلاند وكمبوديا عما يتراوح بين 0 - 26 حالة جديدة يوميًّا في
المتوسط خلال الشهر الماضي، وذلك على الرغم من كثافة السكان.
ويعود ذلك إلى أنه بعد أن عانت من وباء السارس وأنفلونزا الطيور،
تعاملت العديد من الدول الآسيوية مع تهديد (كوفيد-19) بجدية منذ البداية. بالإضافة
إلى ذلك، نفذت العديد من البلدان إجراءات ارتداء الأقنعة الصارمة والتباعد
الاجتماعي في وقت مبكر. وكانت الاختبارات المستهدفة وتتبع المخالطين والثقة
ومشاركة المجتمع أمرًا بالغ الأهمية في الاستجابة الناجحة للجائحة.
4- الدروس
المستفادة من الموجة الأولى: اجتاحت الموجة الأولى من فيروس كورونا عالمًا غير
مستعد، وكافحت السلطات لاختبار المرض، ولم تعرف كيفية إبطاء انتشاره. ومع ذلك، فقد
أدت عمليات الإغلاق إلى وضع الفيروس تحت السيطرة المؤقتة في بعض الدول، مما منح
العالم نافذة أمل لإحياء التعليم والاقتصاد، ووقتًا لفهم الفيروس بشكل أفضل والاستعداد
لموجات مستقبلية منه.
وفي ضوء ذلك، من الضروري توظيف المعرفة المكتسبة من الموجة الأولى
لمواجهة المواقف عالية المخاطر؛ إذ أصبح الأطباء بشكل عام أكثر استعدادًا لعلاج
المرضى بعد تجربة الموجة الأولى، كما صارت المستشفيات الآن أكثر استعدادًا للتعامل
مع تدفق مرضى الفيروس بشكل أفضل على المستويين الطبي والتنظيمي.
كما تُتيح عمليات رصد الفيروس في مختلف أنحاء العالم ما يكفي من
المعلومات للتوصل إلى بعض الاستنتاجات المؤقتة بشأن الطريقة التي يُحتمل أن تتطوّر
بها الجائحة في الأشهر المقبلة.
5- الاستثمار
الأمثل للفترة الزمنية الفاصلة ما بين الموجتين: بالنسبة للدول التي لم تدخل بعد
في الموجة الثانية، فإن هذا هو الوقت المثالي لاتخاذ التدابير الاستباقية للحيلولة
دون الدخول فيها، أو على أقل تقدير استثمار هذا الوقت في الاستعداد الجيد للموجة
الثانية، وذلك من خلال تسريع وتيرة الإنتاج المحلي من المستلزمات الطبية واللقاحات
أو تأمين الحصول عليها من الخارج، كما يمكن لهذه الدول أيضًا المبادرة بإلزام
مواطنيها بالامتثال للقواعد المفروضة، وذلك من خلال فرض الغرامات، حتى وإن كانت
معدلات الإصابة فيها لا تزال منخفضة.
6- التواصل
الحكومي مع المواطنين: الدول التي أدارت انتقال الفيروس بشكل فعّال خلال الموجة
الأولى، هي التي كانت لديها رسائل متسقة من مختلف مستويات الحكومة، مما عزز من
السلوكيات اللازمة للحد من انتقال العدوى.
وفي ظلّ اندلاع المظاهرات الحاشدة احتجاجًا على إعادة فرض التدابير
الاحترازية في بعض دول العالم خلال الفترة الأخيرة، ومن بينها: الولايات المتحدة
وألمانيا، فإن الحكومات مدعوة بشكل أكبر لمخاطبة مواطنيها بلغة بسيطة ومباشرة
وصادقة.
وفي هذا السياق، دعت المستشارة الألمانية "أنجيلا ميركل"
مؤخرًا، إلى مزيد من التكاتف والتضامن بين الأجيال المختلفة في ظل أزمة كورونا.
ونوّهت إلى أنه كما طلب شباب من خلال حركة "أيام الجمعة لأجل المستقبل"
أن يُراعي كبار السن حماية المناخ، فقد دعت "ميركل" الشباب أيضًا إلى
مراعاة كبار السن، باعتبارهم ضمن الفئات الأكثر تعرضًا للإصابة بالفيروس.
وفي ضوء ما سبق، يمكن القول إن الحكومات تحتاج إلى الاستعداد للموجة
الثانية من فيروس كورونا من خلال إنشاء سيناريوهات مختلفة لمسار العدوى، وتحديد
أفضل الخطوات للحد منها، مع إدارة العواقب الاقتصادية والاجتماعية أيضًا، خاصة أن
التأخير في سَنّ السياسات المناسبة خلال الموجة الأولى أدى إلى ارتفاع التكاليف
الصحية والاقتصادية، ويمكن أن يحد التخطيط المسبق من خطورة الموجة الثانية.
وعلى الحكومات العمل معًا قبل اندلاع الموجة الثانية من (كوفيد-19)
أو الجائحة التالية لتطوير سياسات تحمي الترابط بين الاقتصاد العالمي، وضمان تدفق
السلع الأساسية وسلاسل التوريد، والأهم من ذلك ضمان التوزيع العادل للقاحات
كورونا، خاصة للدول النامية والفقيرة.