وكيل الأزهر يقارن بين التشكيك في التراث الإسلامي وقبول مخطوطات أرسطو المنسوبة إليه وبينها وبينه ألف عام
أكد فضيلة أ.د/ محمد الضويني، وكيل الأزهر، أنَّ التاريخ العريق للمسلمين، وما أنتجه من علوم وحضارة، بدأ من تلك اللحظة التي ولد فيها نبينا الأكرم ﷺ، والذي كان بين ميلاده ووفاته سيرة عجيبة؛ غيرت وجه العالم، مبينا فضيلته المنهجية الصحيحة للتعامل مع السيرة النبوية، مع كشف زيف الشبهات والمشككين في تاريخ الإسلام، وسيرة نبيه الأكرم ﷺ.
وأضاف وكيل الأزهر خلال كلمته بالملتقى الفقهي الخامس لمركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية تحت عنوان «منهجية التعامل مع السيرة النبوية بينج ضوابط التجديد وانحرافات التشكيك»، اليوم الأربعاء، أنه قد تساءل المشككون: «هل السيرة النبوية صحيحة؟» ثم كذبوها؛ بحجة أن تدوينها متأخر، ووثائقها مفقودة، ومن ثم فمصدرها آيات القرآن! دون مرويات السنن، وأخبار السير والمغازي! وهو طرح مردود؛ لعدة أسباب:
أولا: لأن القرآن الكريم –وهو كتاب «هداية، وإرشاد»؛ أورد قدرا يسيرا من أخبار الرسول ﷺ بما يتوافق وهدفه الإصلاحي في (العقيدة والأخلاق والشريعة)! وليس القرآن كتابا للتأريخ وتوثيق الأخبار والمغازي! ولو أننا اكتفينا بالقرآن كما يطلبون؛ فمن أين لنا أن نعرف الأخلاق العملية، والمهارات الحياتية، والترجمة الحقيقية لأوامر القرآن؟ ولذا حاول بعض العلماء كفاية المسلمين في ذلك، فجمعوا كل «المرويات والحكايات الشفهية» بهدف بناء وترتيب السرد التاريخي والقصصي، المتعلق بأخبار الرسول ﷺ ومغازيه، وهو عمل ضروري لا غنى عنه.
وتابع وكيل الأزهر أن ثاني أسباب كذب منكري السنة والمفترين عليها القول بأن كُتاب السير التزموا كلهم بجمع صحيح المرويات وفقط! هذا فرض مختلق، وإلزام لهم بما لم يلتزموه، ودليل على عدم اطلاع المتكلم بهذا على كتب السيرة ودرجاتها؛ فقد جمع بعض كتاب السيرة (القصص والأخبار) حول الحادثة الواحدة، دون النظر إلى قبولها أو ردها؛ ولذلك ظهر في كتبهم [الضعيف والواهي]! وليس هذا اكتشافا وصل إليه دعاة التنوير بعد جهد وعناء، بل إن تراث المتقدمين نفسه قد نبه على ذلك، فكان منهم النقاد الذين ينخلون المرويات، ولذا نجد في المقابل محدثين كتبوا في السير والغزوات والشمائل والخصائص؛ أفلم يكن هؤلاء المحدثون يعرفون قواعد الجرح والتعديل، وأحوال الرواة صحة وضعفا؟
واستكمل فضيلته ثالث الردود على منكري السنة الذين قالوا إن عدم العلم، يستلزم علم العدم! أهذه قاعدة جديدة، تصحح الحكم بزيف سيرة ابن إسحاق، لعدم العثور على مخطوطاتها أو نسخ منها! إن ابن إسحاق ليس المنفرد بالتصنيف في السيرة، ولا هو الأسبق فيه، وعلى فرض أن مخطوطات سيرته مفقودة، وهذا فرض بعيد ومردود بأدلة الواقع، وبفهارس المكتبات، لكن على فرض ضياع مخطوطات ابن إسحق؛ أفليست سيرة ابن هشام مروية عنه بالسند المتصل بعد (اختصارها وتهذيبها)؟ وهذه وحدها تتوفر منها عشرات النسخ في أكثر خزانات العالم.
وبيّن الدكتور الضويني أن من العجيب أن بين أرسطو وأقدم مخطوطة منسوبة إليه قرابة الألف عام، ومع ذلك نتلقاها بالاحترام والقبول، وكذلك مؤلفات التاريخ الغربي الذي لا سند له أصلا! فبأي منطق تمتهن سيرة النبي الأكرم، رغم نقل أحداثها بالأسانيد؛ في أمة تحتاط عبر تاريخها في النقل والرواية؛ فحفظوا لنا الأشعار والأنساب بدقة لم تبلغها أمة من الأمم، وكأن الهدف ليس التشكيك في المؤلفات، وإنما التشكيك فيما تحويه من أحداث ومواقف؛ تمهيدا للزج بتاريخ الإسلام في «موضة» إنكار الوجود التاريخي للأنبياء! لا سيما وأن سيرة رسولنا الأكرم ﷺ، هي السيرة الوحيدة المكتملة لنبي من الأنبياء.
وأوضح وكيل الأزهر أن التشكيك في السيرة لم يقف عند حدود نفي مصادرها، وإنما تعداه لتقديم قراءات وتأويلات مشوهة لأحداثها، بدعوى: (الحق في ممارسة النقد)، وأن الآخرين مقلدون يجعلون التراث فوق العقل!، كما أننا نتساءل: من قال إن مرويات السير غير قابلة للنقد؟! إن هذا فرض مختلق لإظهار علماء المسلمين وكأنهم كهنة يرفضون النزاهة والموضوعية والبحث الحر، والحق إن أخبار السير خضعت قديما للنقد [سندا ومتنا] على يد علماء هذا التراث العظيم.
وبيّن فضيلته أنه إذا كان المؤرخون كابن إسحاق قد ركزوا جهودهم على الجمع والتقصي للأخبار، فإن المحدثين قد ركزوا جهودهم على نقد المرويات وتمييز الصحيح من الضعيف، فاشتهرت قاعدتهم حول وقائع السيرة: أنه متى صح الإسناد، وخلا المتن من النكارة، كانت الرواية صحيحة ويبنى عليها العمل؛ وأي رواية في السيرة تتعلق بأصول الدين، أو تفيد حكما شرعيا، فمثلها تماما مثل رواية بقية السنن ، سواء بسواء، في البحث عن عدالة الرواة، واتصال الإسناد، وانتفاء الشذوذ والعلة، ومن العلماء الذين سلكوا هذا الطريق عروة بن الزبير، وأبان بن عثمان، والإمام البخاري، والإمام الزهري، وغيرهم!
وأكد الدكتور الضويني أن المتقدمين مارسوا نقد مرويات السير والمغازي، ومارسه حديثا علماء مدرسة الإصلاح والتجديد الأزهرية، لكنه نقد مبني على [علم ومنهج وبصيرة]، نقد يحفظ الدين، ويوقر مقام الرسول الأمين، ولا يجعل دعاءه بيننا كدعاء بعضنا بعضا، وشتان بين هذا وبين نقد لا يرتكز على أصل، ولا يضبط بقاعدة ولا منهج، فلقد زعموا أن أصول التراث الإسلامي، لم تدون إلا بعد قرابة مئتي عام من وفاة نبينا الأكرم ﷺ، بتوجيه من خلفاء وأمراء بني العباس، لإضفاء الشرعية على ملكهم، بما في ذلك آيات القرآن، ومرويات السنة المطهرة، وأخبار السيرة.
وتابع فضيلته أن هذا طرح عجيب، يثير الشك والريبة والسؤال: أولا: كيف اقتنعت نخبتنا المثقفة بتزوير تاريخ أمة بأكملها، على اختلاف مذاهبهم وتباعد أماكنهم في فترة يسيرة لا تتجاوز المئة عام؟ وكأن المسلمين جميعا -في مشارق الأرض ومغاربها- صاروا «سكارى» لا يدرون ما بهم؟، ثانيا: في الوقت الذي ولدت فيه خلافة بني العباس في المشرق، ولد هنالك في المغرب خلافة جديدة لبني أمية على يد عبد الرحمن الداخل، فهل صار لدينا قرآن عباسي، وقرآن أموي! وسنة نبوية عباسية، وسنة أخرى أموية!، ثالثا: لقد اكتشف الباحثون في العقد الأخير العديد من المخطوطات القرآنية التي تعود إلى ما قبل سقوط الخلافة الأموية وقيام دولة بني العباس، مما يؤكد زيف هذه الأفكار.
وأردف وكيل الأزهر أن هؤلاء المشككون زعموا أن تفاصيل الجغرافيا في القرآن تنفي أن يكون الإسلام قد نشأ في مكة، ورجحوا أنه نشأ هنالك في الأردن، أو في بقعة يسكنها قوم من أهل الكتاب، وهي مزاعم غريبة تنطلق من قناعات مناهضة لروايات التاريخ الإسلامي، بلا برهان ولا يقين، وقد تغافلت هذه المزاعم عن العديد من الحقائق الثابتة: تغافلت عن الأدلة اللغوية التي تؤكد أن اللهجة القرآنية ومفرداتها تنتمي بشكل واضح إلى لهجات الجزيرة العربية في الحجاز، وتغافلت عن الآثار المعاصرة الحية، فما زال يوجد بيننا الآن المسجد الحرام، والمسجد النبوي، وقبر الرسول الأكرم ﷺ، وقبور الأصحاب، وجبال (أحد وعرفات والصفا والمروة)، وأحياء (خيبر وتبوك ونجد والطائف) وغيرها، كما تغافلت عن النقوش الإسلامية المكتشفة حديثا، والتي يعود تاريخها لعصر الرسول ﷺ!، كما أنها تجاهلت النظريات الاستشراقية الجديدة التي أظهرت تراجعا ونقدا عن هذا المزاعم، فلا ندري لماذا يحاول البعض إحياء هذه الشبه والضلالات بين الحين والآخر!
وأضاف فضيلته أن موجات التشكيك قد طالت معجزات الرسل والأنبياء، فسمعنا إنكارا للإسراء والمعراج، وإنكارا لنبع الماء من بين أصابعه ﷺ، وغير ذلك، فهل لهذا الإنكار نصيب من العلم والمنطق؟! وتناسوا أن النبوة، أمر خارق للعادة، فمنطقي أن يكون دليلها من جنسها، فهي أمر خارق للعادة صالح للتحدي، جاء على وفق دعوى النبوة، سالما من المعارضة، فما العيب أو الخرافة في ذلك؟ مؤكدا أن معجزات الأنبياء ممكنة في قانون العقل، مستحيلة بحسب عادة الناس! ثم إن إعجاز الإله للإنسان حاضر ومشاهد في كل ما نراه حولنا من تفاعلات أصغر الذرات إلى حركات أكبر المجرات! فما العيب في ذلك؟ لماذا كل هذا الصخب لإنكار معجزات الأنبياء بلا برهان، وتسويقها للجماهير كأنها أساطير الأولين!
وشدد وكيل الأزهر على أنه لا برهان معتبر لإنكار معجزات الرسل! ولا فائدة مرجوة من هذا الضجيج! اللهم إلا أن يكون مرادهم إسقاط قدسية الأنبياء وعصمتهم، والطعن في القرآن الذي أثبت لهم هذه المعجزات والخوارق! وإن الأنبياء والرسل الكرام، يجمعون بين طبيعتين: الأولى: قدسية باعتبار كونهم رسلا من عند الله يتلقون الوحي، ويبلغونه للناس بصدق وأمانة، وهم معصومون في ذلك لا يتطرق إليهم الزيغ أو الخيانة، والثانية: إنسانية، باعتبار كونهم بشرا مثلنا، يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق، ويعتريهم ما يعتري البشر من الصحة والمرض، والحزن والفرح، والعاطفة والغريزة، والموت والحياة.
وأكد الدكتور الضويني أن مشكلة الخطاب الحداثي أنه تجاوز مقام النبوة، وما يتعلق به من عصمة ونزاهة، وراح يقدم خطابا يختزل فيه حال النبي ﷺ في مقامه البشري، حتى صار يحدث الجماهير عن صورة (محمد الزوج، والتاجر والسياسي والعسكري)، ويعني ذلك الإنسان الذي يعتريه ما يعتري البشر من (حظوظ النفس والهوى)، حتى غاب عن عقول الناس صورة (محمد النبي المعصوم الأمين)، ولذلك صرنا نرى الطرح الحداثي يكتب عن (الأخطاء السياسية، والأطماع الاقتصادية والعلاقات الجنسية) في مجتمع الرسول، وهو في كل ذلك لا ينطلق من (قاعدة ثابتة، ومنهج معتبر)، وإنما يبدأ متحيزا؛ بجمع كل ما صادف هواه من (الضعيف والموضوع)! والعجب؛ أنا نراه؛ حينا؛ يشكك في مصدر (السير والمغازي) لنفي كل فضيلة عن النبي الأكرم ﷺ؛ وحينا آخر يوثق منها كل (موضوع وهاو) لإثبات كل رذيلة بسيرته العطرة وتاريخ صحبه الكرام!
وأوضح فضيلته أن مناهج التشكيك في السيرة النبوية -بقصد أو غير قصد- تشوه صورة النبي الأكرم، وتقلل من قدره بوصفه قدوة وقائدا للمسلمين، وتزعزع الثقة في التراث الديني وتثير الانقسامات في المجتمع الواحد، ومن ثم فالتحدي كبير، والمسؤولية عظيمة.
وقدَّم وكيل الأزهر في ختام كلمته بعض الأفكار والمقترحات في منهجية التعامل مع السيرة النبوية بين ضوابط التجديد وانحرافات التشكيك وهي:-
أولا: تعتبر السيرة مصدرا غنيا للإلهام وغرس الأخلاق والقيم، إلا أن هناك ميلا نحو استخدامها كمادة للإثارة والتشويق من خلال القصص والأساطير الخرافية، وهذا التحريف يبتعد بنا عن الغايات النبيلة للسيرة، وهو ما حذر منه العلماء من خلال مواقفهم الصارمة ضد القصاصين.
ثانيا: تتباين قراءات حروب الرسول ومغازيه بين المتطرفين الذين يستخدمونها لتبرير العنف، والمتشككين الذين يتهمون السيرة بالترويج للحروب والصراعات، ومن ثم فهناك حاجة ماسة لتقديم قراءة متوازنة تبرز الجوانب الإنسانية والأخلاقية لهذه الأحداث، وتوضح سياقاتها التاريخية دون تحريف أو مغالاة.
ثالثا: من المهم تجاوز تلك القضايا التي تؤدي إلى الفتنة والانقسام، مثل استدعاء خلافات الصحابة بشكل تفصيلي، فالتركيز على ذلك يفسد الطرح الثقافي ويثير الفتن، بينما التركيز على التوافق والأخوة يعزز الأمن والسلام ووحدة الأمة.
رابعا: تلعب الأعمال الدرامية والسينمائية دورا مهما في نقل السيرة النبوية من النصوص إلى الصور المرئية، وهذا التناول يمكن أن يسهم في تعزيز الفهم العام للسيرة، شريطة أن يتم بحذر؛ لضمان دقة التمثيل واحترام قداسة الشخصيات، وتجنب تشويه الحقائق أو تبسيطها بشكل مخل.
خامسا: يمثل الإعلام أداة قوية لتسويق أحداث السيرة النبوية، لكنه يواجه تحديات كبيرة في التمييز بين ما هو مفيد من الأحداث التي تحمل قيمة أخلاقية، وبين ما يستخدم فقط لإثارة الجدل والتشكيك، فيجب أن يكون التركيز على نقل الدروس والعبر المفيدة، وتجنب التشويه والتشهير الذي يضر بالأخلاق والقيم.
سادسا: نؤكد أهمية توظيف المناهج والعلوم الحديثة، في دعم وتوثيق أحداث السيرة النبوية؛ حيث يتيح ذلك اكتشاف المواقع التاريخية المهمة، وتفسير العادات والتقاليد والثقافات التي سادت في زمن النبي ﷺ بما يعزز من صحة الروايات التقليدية ويقدم لنا رؤية شاملة لأحداث السيرة النبوية، ويوفر أساسا قويا للباحثين والأجيال القادمة لفهم تاريخ الإسلام بشكل أعمق وأكثر دقة.