دودة القمة
الأحد 17/يناير/2021 - 04:08 م
عام 1999
باريس
بعد أن انتهي سعد عبد الرحمن من يوم عمل طويل، استلم فيه أوراق قضايا رجل الأعمال الهارب محمود أبو سريع، ليرسلها بالفاكس لمقر مكتب استاذه ومديره المحامي الكبير حسين عبد المعز، ذهب لمنزله الفخم في شارع مونمارتر والذي يتكفل بدفع إيجاره بالطبع حسين عبد المعز، فور دخوله المنزل طبع قبله فوق شفاه مونيكا أو معالي قبل أن تقرر الهجرة والاستقرار في فرنسا ثم قال لها ( حضري نفسك عازمك على العشا في المطعم اللي بتحبيه وبعدها هنشتري فستان جديد).
ارتدت مونيكا أفضل ما لديها، فستانا أسود أنيق يكشف عن ساقيها وجزء من نهديها التي زارت دكتور التجميل أكثر من مرة بسببه ليصبح بهذا الشكل والحجم، وجدت سعد ينتظرها أمام باب العقار ويفتح لها باب السيارة في حركة رومانسية لا يقوم بها عادة مما أثار دهشتها، بالتأكيد عشاء الليلة وتلك المعاملة اللطيفة لا تأتي من رجل مثل سعد إلا وكانت استثمار لطلب ما ستعرفه لاحقا.
اقتنعت معالي منذ وصولها فرنسا مع سعد أن التغير لا يعني تغيير المكان فحسب، عليها أن تغير كل شيء، بدأت تهتم بجسدها وطريقة نطقها للكلام وتصلح وترمم أجزائها التي أتلفها الفقر، حتى مفاهيمها تغيرت، فبعد أن أقنعها سعد بالهروب من أهلها واللحاق به لفرنسا للزواج منها وافقت على أن تعيش معه دون زواج، قالت لنفسها الزواج في مصر مهم من أجل السمعة لكن فرنسا تختلف كثيرا، هنا لا يفتش الناس على سمعة جيرانهم ولا يسألون من يزورك ولا يعتبرون الفتاة التي تخطت الثلاثين فاتها قطار الزواج، ومن هنا أصبحت معالي التي ولدت في شارع الحرية بمنطقة السكاكيني وسط القاهرة، مونيكا التي تسكن مع رفيقها في أفخم شوارع باريس.
وصلا للمطعم الفاخر وكرر سعد نفس الحركة وفتح باب السيارة لمونيكا وسط دهشتها، وعندما دخلا المطعم سأل عن الترابيزة التي حجزها باسم( محمود أبو سريع) رجل الأعمال الهارب والذي سيتولى قضيته في مصر حسين عبد المعز، اندهشت من اسم حاجز الترابيزة وسألته عن السبب، انتظر بعد ان غادر النادل وقال لها بثبات يحسد عليه ( الراجل بقاله فترة سايب مصر ووحشه مصر والمصريين.. أقوله لا؟!)، فهمت مونيكا مقصده، ليست المرة الأولى التي ينتفع من لحمها الشهي، لا مانع من عمولة 20 ألف جنيه استرليني والتنازل عن حبيبته ليلة واحدة، الدنيا لن تنتهي من وجهة نظره، والغريب أنها قابلت عرضه بمنتهى الهدوء وقالت( انا كنت فاكرة اننا هنتعشى سوا.. كنت قلي أنه شغل) اعتذر لها وأخبرها أنه سيعود ويأخذها بعد 3 ساعات ولكن من أمام الفندق الذي يقيم فيه أبو سريع.
ترفض مونيكا أن تحصل على أمول نظير الخدمات الجسدية التي تقدمها لعملاء سعد، اعتبرت تنازلها نوعا من أنواع التغيير الذي فرضته عليها الغربة، ومن قبل الغربة فرض عليها الحب، فهي تعشقه، كانت زميلته في كلية الحقوق وجمعتهم علاقة صداقة ثم حب استمر 7 سنوات، وفي اليوم الذي وعدها سعد بأن يأتي لطلب يدها من زوج أمها، علمت من أعز أصدقائه أنه غادر مصر ليتولى إدارة مكتب المحاماة للمحامي الكبير حسين عبد المعز في فرنسا، قررت أن تعيش حياتها وتنساه وتنسى حبه وبعد أول مكالمة منه لها يبرر ما فعله نسيت تماما فعلته وعادت تموت في الهواء الذي يتنفسه، اقنعها بإنها تعيش في الجحيم وعليها السفر ودخول جنة فرنسا، لم تكن تعلم وقتها أن الجحيم أحيانا كثيرة يكون أرحم وأنقى من الجنة.
استغل سعد فراغه 3 ساعات متواصلين وذهب للمحل الذي أوصت به زوجة ولي نعمته لشراء فستان ستحضر به حفلة رأس السنة،والحفلة هذا العام تختلف كثيرا، أنها الألفية الجديدة، عليها شراء فستان باريسي التصميم يليق بالمناسبة، وبالفعل حجزت الفستان وكان على سعد استلامه بعد التأكد من المقاسات واللون والموديل، فبالإضافة لعمل سعد مدير مكتب المحاماة الخاص بحسين عبد المعز في فرنسا، أو بمعنى أدق مندوبا له، يتسلم أوراقا وأموالا ويرسلهم للقاهرة،هذا دوره الرئيسي، يعمل أيضا (تاجر شنطة) يوفر جهد ولي نعمته وزوجته ويشتري لهما كل ما يطلبونه من باريس، ولا يمانع من الاستثمار في أي شيء يحصل منه على أموال.
انتهت الليلة وذهب لينتظر مونيكا أمام الفندق، بعدها بخمس دقائق رآها تخرج من باب الفندق فابتهج كثيرا كأنه أنهى مهتمه بنجاح، تركها تفتح باب السيارة بنفسها هذه المرة، أعطت له ظرفا به 20 ألف جنيه استرليني، وضعه في جيب الجاكت وقال لها ( طبعا لو عاوزة أي نسبة براحتك أنتي عارفاني حقاني وماكلش فلوس أبدا) نظرت له ثم نظرت للفستان وقالت ( دا ليا؟) فقال لها ( انا قلت هنشتري فستان .. مقلتش هنشتري ليكي فستان) وضحك كأنه قال نكتة خفيفة الظل ،نظرت له و لم ترد على كلامه وظلت صامتة حتى وصلا للمنزل.
انتهز سعد سفر أحد معارفه لمصر وأعطى له الفستان ليوفر ثمن الشحن أو بمعنى أصح يأخذ تكاليف الشحن الذي أرسلها له حسين عبد المعز، صديق له سوف سيقدم له خدمة وسيوفر 400 جنيه أسترليني ويعطي لهذا الصديق 100، صفقة رابحة من صفقات سعد التي لا تنتهي أبدا.
25 فبراير 2000
باريس
يبدأ سعد يومه بمتابعة الفاكسات ثم قراءة الجرائد العربية كافة وليست المصرية فقط، صدم سعد خبر ( إقالة عدد من الموظفين وتقديمهم للمحاكمة بعد تورطهم في بيع أراضي مشروعات الإسكان المتوسط لرجال الأعمال)، أنهم المسؤولين الذي يعمل لحسابه حسين عبد المعز، يحصلون على عمولات ورشاوى من رجال الأعمال مقابل الحصول لى قروض وأراض دون أوراق تدينهم ثم يتولى عبد المعز الدفاع عنهم ويضمن لهم البراءة، اللعبة التي كان سعد مجرد ترس صغير فيها يكسب الفتات الذي يقع من الكبار تم كشفها، وطالما تم إقالتهم فهي مسألة وقت وسيتم مسائلة ولي نعمته أيضا المحامي الشهير حسين عبد المعز، ماذا سيفعل؟ سئل نفسه كثيرا، ظل يفكر ليلة كاملة، حتى قرر العودة والوقوف بجانب ولي نعمته حتى يخرج من تلك الأزمة وينعم عليه بمنصب أكبر وثقة لا حدود لها.
ذهب للمكتب في اليوم التالي وأخبر العاملين أنهم في إجازة مفتوحة لحين أي مستجدات، وذهب للمنزل ليحضر حقيبة سفره ويخبر مونيكا بالقرار، رفضت مونيكا أن تعود معه لمصر، رفضت أن تعود معالي مرة أخرى وفضلت انتظاره في باريس على وعد منه بأن يعود، وضحكة تشبه الأحبال المتقطعة ، فهو رجل لم يفي أبدا بوعوده.
28 فبراير 2000
مصر
ذهب سعد فور وصوله لمنزل حسين عبد المعز، علم الأخبار الجديدة بالقبض على حسين وتورطه في القضية وأخبر زوجته أنه مستعد لتقديم نفسه ككبش فداء من أجل استاذه الجليل ومعلمه الفضيل، شكرته وطلبت منه أن يتابع التحقيقات مع باقي محاميي المكتب ، وافق بالطبع وأكد عليها أنه في خدمتها الشخصية في أي وقت.
ذهب سعد وبات ليلته الأولى في الشقة التي كان يدفع قسطها وهو في باريس، للمرة الأولى التي يملك شقة في مجمع سكني يعد من المجمعات الفارهة في القاهرة، حصل على ثروة لا بأس بها أثناء حياته في فرنسا، ما بين العمولات وراتبه الكبير والقضايا الصغيرة التي كان يأخذها لحسابه، بات ليلته يفكر في حل يخرج ولي نعمه من المأزق الذي وقع فيه، النيابة تملك تسجيلات مسموعة ومصورة، والقضية تحولت لقضية رأي عام، تتابع أخبارها الجرائد والفضائيات التي أصبحت موجودة في مصر مع بداية الألفينات، هل من الممكن أن يصل لحل يبرء حسين عبد المعز حتى لو ضحى بباقي المتهمين؟، حسنا، سيتوصل للإجابة بعد أن يضطلع على أوراق القضية غدا.
2 مارس 2000
مصر
بدء سعد يومه بقراءة كل ما نشر عن القضية في الجرائد، ثم ذهب لمكتب حسين عبد المعز والتقى بمجموعة المحاميين الذي تولوا القضية، يعلم أنه أصغرهم مقاما لكنه يكسب النصيب الأكبر من ثقة حسين وأسرته، لذلك تكلم باعتباره استاذ لهم جميعا ولم يعارضه أحدا لأنهم يعلمون بمكانته لدى المحامي الكبير المتهم وأسرته، انتهت المناقشات بعد 4 ساعات حاول سعد فيهم أن يشعر بأي أمل لكنه لم يحدث، القضية في حالة الحكم المخفف سيكون الحكم فيها 15 عاما، وهذا يعني انهيار المؤسسة التي بناها حسين عبد المعز وانتهاء عمله في باريس واستيقاظه من الحلم الجميل الذي كان يصنع فيه أموالا لا تعد ولا تحصى.
مصر
3مارس 2000
اليوم هو أول جلسات القضية المعروفة إعلامية بـ(قضية الإسكان المتوسط)، وصل سعد مع مجموعة المحاميين الخاصة بحسين عبد المعز للمحكمة، دخلوا في حراسة مشددة نتيجة المظاهرات أمام قاعة المحكمة من الذين حجزوا في هذه المشروعات ولم يحصلوا على شققهم حتى الآن، عددهم يفوق الألفين شخص، يهتفون أمام الجرائد وكاميرات القنوات.
دخل سعد بصحبة المحاميين للقاعة وذهب بعينه ناحية قفص المتهمين وألقى التحية على حسين عبد المعز الذي تغير شكله كثيرا وظهر عليه سنه الحقيقي بعد أن اختفت الصبغة السوداء من شعر رأسه، كان سعد في وادي آخر أثناء المحاكمة، النيابة تملك دلائل وبراهين قاطعة تدافع بها عن حق هؤلاء المتظاهرين، والدفاع يراوغ ويناور ليحصل على ثغرة تهد هجوم النيابة، وفجأة استأذن سعد وخرج من قاعة المحكمة، ذهب ناحية تجمع الكاميرات والصحفيين و وقف كأنه سيلقي بيان هام ثم قال ( أنا سعد عبد الرحمن المحامي، أعلن انسحابي على الهواء من فريق الدفاع الخاص بالمحامي حسين عبد المعز ودفاعي عن هؤلاء المساكين الذين ضاعت حقوقهم )، قامت الدنيا ولم تقعد، نشرت الجرائد وأذاعت البرامج موقف المحامي البطل الذي لم يرض عن الظلم وانضم لصفوف المظلومين، بدء هاتفه يرن بأرقام الصحفيين والمسؤؤلين عن أشهر البرامج اليومية في مصر، اشترط تعريفه في أي حوار أو لقاء بصفته ( المحامي عن حق الشعب في قضية الإسكان المتوسط)، وبالفعل تم ذلك.
في قاموس سعد هناك فرق كبير بين الشجاعة والغباء، فالشجاعة قد تجعل شخصا يتمسك بالسفينة أمام الأمواج، ولكن في حالة إيجاد قارب للنجاة يعبر به للشط فمن الغباء ألا يقفز من السفينة في اتجاه القارب، وهنا وجد سعد القارب الذي كان يبحث عنه.
ظهر في أول حوار تلفزيوني له مع المذيع الأشهر في مصر وقتها ( سعيد حمدي) وصال وجال بكلامته الثورية التي حفظها في الجامعة، كشف الكثير من فضائح المحامي الشهير وتبرأ من أفعاله وأكد أنه كان يعمل في مكتبه في فرنسا ولا يعلم شيئا عن فساده في مصر، شدد على ضرورة توكيله من أي شخص دفع عربون في عقار تابع للإسكان المتوسط ولم يحصل عليه، واختتم لقاءه بجملة ( في المواقف دي بيظهر المعدن الحقيقي للإنسان، وانا اخترت أهل بلدي) ليصبح بعد لقاءه الشهير المحامي الأشهر وصاحب لقب ( محامي الشعب).
بعد 5أعوام من الجلسات والمرافعات والتأجيلات، حكم في القضية على المتهمين الرئيسيين ب15 عاماوعلى المحامي حسين عبد المعز ب10 أعوام ، ارتفعت أسهم سعد بعد ذلك الحكم واعتبر نفسه اقتص لهؤلاء المساكين الذي دافع عنهم دون مقابل، لكن المقابل الحقيقي الذي حصل عليه هو شهرته الواسعة التي لم يكن يحلم بتحقيقها بإمكانياته المهنية الضعيفة التي لم تؤهله سوى لشغل منصب مندوب محامي كبير في بلد أوروبي.
مصر
1 أبريل 2005
يجلس سعد في مكتب فخم من ضمن 4 مكاتب أصبح يملكهم وأمامه أحد الصحفيين الذي يجري معه حوار، يقول له ( وجودي على الشاشة الآن أصبح مطلبا شعبيا، ومستمر في استقبال كل الشكاوى والقضايا لغير المقتدرين مجانا)