صاحب الورود
الجمعة 12/فبراير/2021 - 04:16 م
تنساب الموسيقى من بين يديها كأنها مياه عذبة هبطت على أرض بور أشبعتها وطرحت فيها الورود، تعزف لمياء خريجة معهد الموسيقى العربية مقطوعة موسيقية يوميا يسمع أنغامها العمارة بأكملها، بعد ثواني من انتهاء عزفها تفاجأ بجرس الباب، وكالعادة تجد وردة تحت قدميها دون أن تعلم من قارع الجرس وواضع هذه الوردة بشكل يومي، يتكرر الموضوع منذ أسبوع، تنتظر رنة الجرس فور انتهاء العزف، كأنها أحبت طريقة هذا الشخص فى التعبير عن إعجابه بعزفها..
أعرفكم بنفسي قبل استكمال الحكاية ، أنا هشام السيد احمد ، أملك مكتبا للمحاسبة القانونية بمنطقة الهرم ، وأنا أيضا من يضع هذه الوردة يوميا على باب لمياء ، ليس فقط من باب الاعجاب بعزفها ولكن لاعجابي بها شخصيا، رقيقة تلك الفتاة ، تشعر وكأن روحها مزيجا من الموسيقى ونور الشمس ، كلاهما يشع بهجة وسعادة ، سكنت في الشقة التي تجاورني منذ عام مع والدتها فقط ، نسكن في نفس الطابق ولم نلتقي سوا مرة وحيدة أمام المصعد ابتسمنا في صمت كنوع من المجاملة ، واحمد الله ان المشهد كان صامتا .
أحيانا أتشجع وأستجمع قواي وأقول لنفسي "هيجرا اية يعنى لو روحت وكلمتها ، انتو جيران وهى فنانة متهيألى مش هتحرجك " يحدث هذا كل صباح لينتهي بي الامر وانا في سيارتي ذاهبا لعملي دون أي تغيير يذكر ، ثقتي فى نفسي أصبحت كالسلحفاه التى تحدت الأرنب في سباق للجرى
انتهي من عملي واتوقف عند اقرب محل ورود لاشتري لها الوردة اليومية التي اتمنى أن تنال إعجابها
- لو سمحت عاوز ويدة زى بتاعة امبايح
بعد كتمان أصوات الضحك تذهب العاملة في المحل لاحضار نفس نوع الورود الذي اشتريه يوميا.
ما قرأته ليس أخطاء إملائية ، لا ، إنه انا ، عندما اتحدث مع الناس ، نعم ، أنا لدي مشكلة في نطق بعض الحروف يقولون عني " ألدغ " ، منذ صغري وانا أعاني من هذه المشكلة ، البعض يتخذها بشكل كوميدي إلا انني اتأثر بها كثيرا ، عندما الاحظ ضحكات الناس المكتومة على طريقة نطقي يتملك مني الغض ، لهذا أصبحت غير اجتماعي بشكل كبير ، صادقت عملي ، أحيانا كثيرة أخرج بمفردي ، لان معظم أصدقائي يجلعونني أضحوكة المجلس على غرار "قول كدة شرارة الشرير المشرشر" ويبدأون في الضحك دون أن أنطقها حتى ، أصبحت أذهب للمناسبات الضرورية فقط وأحيانا كثيرة اكتفي بهزة رأس أو ابتسامة خفيفة، حاولت كأي شاب في جيلي ان اقترب من إحدى الفتيات في فترة الجامعة ، وفور نطقي للكلام وأثناء الحديث في موضوع في منتهى الجدية أتفاجأ بضحكات ، نعم تضحك وأنا اقول لها " بغيي عييكي " أو مثلا "متتأخييش بيا" ، تفسد العلاقة دون ذنب مني ، واعتقد منها ، من الممكن ان تكون طريقتي هي التي تثير الضحك ، لما أعامل على انني انسان درجة ثانية لا يحق له الحب والمشاعر كالبشر الكاملة ، لدي مشاكل في النطق ولكنني على أية حال ليس لدي مشاكل في مشاعري .
لم أشعر تجاه أي فتاه ما احسه الان تجاه لمياء ، عازفة البيانو الماهرة ، لا أبالغ في وصفها فأنا أعرفها جيدا رغم عدم حديثنا سويا ولا مرة ، أعرف متى تنام ، مواعيد عملها الصباحي ، متى ستبدأ العزف ، تعزف مقطوعة حزينة، إذنا حالتها النفسية ليست على ما يرام ، تعزف "أهواك " لعبد الحليم ، عال عال فهي الان أفضل ، تعرفت عليها من خلال الموسيقى التي تخرج من بين أناملها
السبت 12 يناير
الجو غريب الليلة ، تمطر وصوت الرعد يخترق الآذان ، ومع ذلك صوت البيانو واضح وجميل ويخلق حالة غريبة مع صوت المطر والرعد ، قبل الانتهاء من عزفها بدقيقة كنت على باب الشقة لاضع الوردة ، انحنيت لاضعها وأثناء استقامتي رأيتها تقف أمامي ، تحولت فجأة لتمثال من الرخام في أحد معابد القدماء المصريين ، كنت أنظر لعينها دون أي كلام ، أعشق المشاهد الصامتة
- عجبتني جدا وردة امبارح على فكرة
كاد قلبي يتحرك من مكانه ويعانقها من شدة الفرحة ، وكالعادة تصرفت بغرابة ، تراجعت سريعا ودخلت شقتي وأغلقت الباب ، لا أعلم كيف فسرت هذا التصرف ، ولكنني سأستمر في وضع وردة كل يوم على باب شقتها حتى بعد علمها .
الاحد 13 يناير
الجو شديد البرودة ، انتظرها أمام باب العمارة كأنني أقوم ببعض الاصلاحات في سيارتي ، حتى أراها ، أريد فقط رؤيتها ، ها هي خرجت من المسعد ومتجهة لباب العمارة ، نظرت في الاتجاه الاخر ، وسمعت صوتها وهي تقول " صباح الخير "
- صباح النوي
ابتسمت ابتسامة خفيفة وواصلت طريقها لسيارتها
اللعنة على كل حروف اللغات ، ماذا افعل الان ، أذهب لاختلق معها حديثا ، اتركها ، ابتسمت لي ، من الجائز ان تكون كتمت ضحكاتها عليك مثل ما يفعل الاخرين ، لا لا انا استطيع التمييز بين ضحك السخرية والابتسامة ، ماذا افعل الان، اثناء صراعي مع عقلي كانت بالطبع هي تحركت وانتهى الامر الي هنا .
مر أكثر من أسبوع لم تعزف ، ماذا حدث ، هل تمر بمشكلة ما ، هل اعتزلت العزف لاعتزل انا عن تقديم الورود ؟ ، اتمنى ان استطيع النطق الصحيح خمسة دقائق واذهب اتطمئن عليها بكل ثقة ، لكن هذا على اية حال لن يحدث ، أحضرت بوكيه ورد من نفس النوع الذي يروق لها وقررت ان أضرب جرس الباب "واللي يحصل يحصل "
- ازيك
- الحمد لله ، تعبانة بس شوية بسبب الجو اليومين اللي فاتوا
- اويي مية من ساعات ما سكنتي هنا تقعدي المدة دي كلها متعزفيش
- هحاول حاضر الفترة الجاية ارجع اعزف تاني ، شكرا جدا على الورد
ابتسمت لها وشعرت كالعادة بالاحراج الشديد وانصرفت ، كل مشاعر الدنيا بداخلي الان ، سعادة وفرح وخوف من المقبل ، كل شيء ، لا يهم المهم انني كسرت حاجز الخوف ، رد فعلها الان لا يهم
الاثنين 14 يناير
ضغط كبير في العمل ، الموعد السنوي لمراجعة الميزانيات لعدد من الشركات ، لا اذهب للمنزل منذ يومين ، افتقدها كثيرا وافتقد عزفها ، تقطع حبل افكاري السكرتيرة
- فيه ضيفة لحضرتك برا
ضيفة ؟ وليا انا ؟
- خييها تدخيي
طلتها في مكتبي كانت كفيلة أن تجعل قلبي يتوقف من شدة ضرباته
- لاقيتك مختفي ومفيش ورود خالص قولت اسال عليك ، عشان متفكرش كتير عرفت العنوان هنا من البواب
- اهييا بيكي طبعا نوييتي المكتب ، تحبي تشييبي ايه
- مش عاوزة اشرب حاجة ، عاوزة اقولك حاجة ، لما شوفتك يومها مكنتش اول مرة اشوفك ، انا كنت عارفة ان انت اللي بتحط الورد ، وحبيت الورد دا جدا على فكرة ، حسيتك بتفهم في الموسيقى ، بالوقت اتعودت عليه وبقيت استناه ، اهتمامك باللي انا بعمله خلاني احس بقيمته ، بس عاوزة أسالك ، انت ليه كنت بتحط وردة كل يوم على باب شقتي ، احنا منعرفش بعض اوي ، يعني مثلا ليه مكتفتش بمرة واحدة ، مرتين
حاولت أن أخفي صدمتي واحراجي من معرفتها بصاحب الورود المجهول ، او الذي ظننته مجهولا ، وحاولات اكون دبلوماسيا في ردي
- يعني ، حبيت عزفك ، كل يوم كنت بنبهيي بيه اكتيي من الاويي ، كان عندي شغف اعيف الانسانة اللي حييكت كي المشاعيي اللي جوايا ، معييش انا كيامي مش مفهوم اوي
ابتسمت نفس ابتسامتها عندما قالت لي صباح الخير
- بالعكس ، انا فاهمة كلامك كويس جدا ، فيه كلام مش لازم نسمعه بودانا ، احنا بنمسعه بقلوبنا ، هسيبك انا بقى تكمل شغلك ، على فكرة انا هعزف النهاردة اهواك
بعد مرور سنة
2014
اصبحت يوميا اسمعها ، واضع وردة بعد كل مرة تعزف ، ولكن على وسادتها في منزلنا بعد زواجنا بعدة أشهر ، واعتدت ايضا مع تقديم الورود ، تقديم قبلة على جبينها ، هي التي علمتني كيف يثق الانسان في ذاته وكيف يحب من حوله