السبت 23 نوفمبر 2024 الموافق 21 جمادى الأولى 1446
رئيس التحرير
حازم عادل
مقالات الرأى

الحب والموت في لندن (9)

الثلاثاء 16/فبراير/2021 - 05:40 م

عاد «علي كامل فهمي» من رحلته إلى ألمانيا، ودعا عددًا كبيرًا من أصدقائه الفرنسيين إلى مأدبة عشاء في واحد من أفخم مطاعم باريس بمناسبة سفره في اليوم التالي إلى "لندن"، ومرَّ أمام المائدة شاب ممن تعودت «ماجي» أن تصفهم بالأصدقاء القدامى، ورآها الشاب فتقدم نحوها محييـًا، وما كادت «ماجي» تنتهي من رد تحيته حتى تلقت صفعة ساخنة من زوجها، انسحبت على إثرها من المأدبة، وهي ترد على نظرات الدهشة التي أحاطها بهما المدعون قائلة: إنه أمر عادي.. فلا تزعجوا أنفسكم.

وعلى الرغم مما حدث في تلك الليلة، وما حدث من قبل، فإن «ماجي» لم تتخلف عن السفر معه إلي لندن في اليوم التالي.

كانت إقامة الزوجين في فندق «سافوي»، حيث طلب «علي كامل فهمي» من إدارة الفندق جناحـًا يضم غرفتين متداخلتين للنوم، وأدركت «ماجي» أنه يريد أن يخصص إحداهما لمساعده «سعيد العناني» فعارضته، وقبل أن تتحول المناقشة إلى مشاجرة اعتذرت الإدارة بأن الفندق لا يضم أجنحة خالية بالصورة التي يرغبها الأمير، وأن ذلك سيكون متيسرًا خلال يومين.. فأقام الأمير والأميرة بجناح في الطابق الرابع، والعناني بحجرة في الطابق الثامن، وبعض الحاشية بحجرات متناثرة في أرجاء الفندق وملحقة، ولم تختلف المشاهد التالية في رحلة لندن عن مثيلاتها في رحلة باريس؛ إذ مضت على نفس النسق: حفلات ومشاجرات.. قبلات وصفعات.. ضحكات ودموع.
في صباح السبت 7 يوليو 1923 عاودت «ماجي» الآلام الشديدة التي اضطرتها إلى استدعاء الدكتور «جوردن»، الذي فحصها ثم أبلغهما بأن التهاب البواسير قد بلغ درجة من الحدة تتطلب تدخلًا جراحيـًا، وأنه يشك في وجود تشققات توجب إجراء جراحة عاجلة قبل أن تتلوث فتؤدي إلى تسممها، وأكد ضرورة إجراء العملية الجراحية بأسرع وقت ممكن.

لم يعترض علي كامل فهمي هذه المرة على إجراء الجراحة، لكن كان موضوع الخلاف هو المكان الذي ستُجرى فيه، فهو أصر على أن تجريها في أي مستشفى بريطاني تختاره، بينما أصرت هي على إجرائها في مستشفى «بتشيني» في باريس.
وإزاء إصرارها بدأ يشك في أن الأمر كله مناورة، وأن لديها سببـًا غامضـًا يدعوها للسفر إلى باريس، ورفض سفرها بغلظة استدعتها لطلب معونة «قليني فهمي باشا»، صديق العائلة، وأحد رفقاء الرحلة، الذي فشل أيضـًا في إقناعه بأن واجبه كزوج لا يفرض عليه فحسب أن يستجيب لرغبتها في إجراء الجراحة في المستشفى الذي تطمئن إليه، بل وأن يصحبها إلى «باريس» لكي يكون إلى جوارها أثناء الجراحة. لكن «علي كامل فهمي» تعامل مع الأمر باستهانة بالغة وبتحقير شديد، وأعلن لها أنه لن يدفع لها بنسـًا واحدًا من نفقات السفر أو الإقامة في المستشفى إذا أصرت على السفر إلى باريس. وكان يظن أنها ستتراجع أمام العراقيل التي وضعها في طريقها، لكنها عاندت ودفعت أتعاب الأطباء التي رفض دفعها، وأرسلت وصيفتها صباح يوم 8 يوليو فحجزت لهما تذكرتين إلى باريس. وتحدد موعد السفر صباح يوم 10 يوليو، وكان «علي فهمي» طوال يومي 8 و9 يتجاهل الأمر، ثم غلبته أشواقه مساء يوم 9 فاعتذر لها وأخبرها بأنه حجز لهما مقصورة لمشاهدة مسرحية "الأرملة الطروب"، ثم العشاء، لأنه لن يتحمل أن تسافر وبينهما خصام. ووافقت «ماجي»، وهما في طريقهما عرجت على مكتب التلغراف وأرسلت برقية إلى مستشفي "بتشيني" تؤكد وصولها في ظهر اليوم التالي، في إيماءة واضحة وإعلان صريح بأن موافقتها على الصلح لا تعني تنازلها عن السفر.

تجنّب الاثنان أثناء استراحة المسرحية وحتى خلال السهرة التطرق إلى المشكلة، وظنت «ماجي» أنه استسلم لسفرها وسيعطيها نفقات الرحلة إلى باريس ثم يودعها وداعـًا رسميـًا تشترك فيه الحاشية، ولاعبها «علي كامل» بهذا الحلم عندما أخرج من جيبه -بدلًا من علبة سجائره- رزمة من أوراق النقد الفرنسي، وظنت أنه سيناولها لها، لكنه أعادها بإهمال مرة ثانية إلى جيبه. وتابع برنامج الملهى، ثم قطعه بعد دقائق بسؤال مباغت وجهه لها: أمازلتِ يا حبيبتي تصرين على السفر غدًا إلى باريس؟ وكانت هذه العبارة هي بداية النهاية لعمره العاصف الذي لم يكن قد تبقى منه سوى ساعتين.

اكفهر وجه «ماجي» التي أدركت مغزى سؤاله، وعرفت أنه يمارس حيله السيكولوجية معها، بدعوتها للمسرح، ثم إلى العشاء، حتى يوحي لها بأنه خضع لإرادتها، ثم يفاجئها في نهاية السهرة بسؤال يخيب آمالها ويطفئ فرحتها كي يستمتع برؤية أمارات الهزيمة على ملامحها. هزت رأسها تجيب على سؤاله، ثم استمعت لأسئلته المكررة منذ مرضها.