الأرض السادسة
الخميس 25/فبراير/2021 - 08:15 م
عندما استيقظ عبد الله آدم يومها شعر وكأن باستطاعته الطيران، خفيف كالريشة مما جعله مندهش، كان بالأمس يشتكي من التهاب المفاصل الذي هاجمه عندما أكمل الأربعين وبعض الوزن الزائد الذي طلب منه الدكتور ضرورة التخلص منه للحفاظ على حياته، ومع ذلك يشعر أنه يتحرك الآن بحرية كبيرة وأصبح نظره قوي مرة أخرى بعد ارتدائه نظارة طبية وهو في سن الخامسة والعشرين، شعر عبد الله بسعادة غامرة وقرر أن يغادر سريره وهنا كانت المفاجآة.
يقوم عبد الله ولكنه يترك جسده على السرير، ينظر لنفسه كأنه ينظر في مرآة، يقول لنفسه ( نعم هذا أنا لكنني أتحرك بدوني.. كيف؟)، ثم قام أحدهم بفتح باب الغرفة ودخل بعض الأشخاص يبدو عليهم الحزن الشديد ويتحدثون عنه بضمير الغائب، هل ما يفكر فيه صحيحا، كل المعطيات تقول هذا، إذن مات عبد الله وانفصل جسده عن روحه، وها هي روحه حرة طليقة ستلقى مصيرها في العالم الآخر.
خرجوا هؤلاء بعد الحديث الذي دار بينهم أمام جثمان عبد الله وروحه حول إجراءات الدفن والعزاء وضرورة توزيع الميراث بسرعة حتى لا يقع بينهما مشاكل، ينتظر جثمان عبد الله مصيره،أما روحه فأصبحت حرة أكثرة ولكن فجأة استمعت روحه لأصوات تأتي من يمينه ومن يساره.
( ابن آدم دا عنده مليون و500 ألف ذنب في الـ40 سنة اللي عاشهم) هكذا قال صوت اليسار، ليرد عليه صوت من اليمين ( وعنده مليون و499 ألف ثواب في ال40 سنة )، ثم اتفقا بينهم على مصيره المتوقع وهو توجه روحه للنار لتفوق مجموع ذنوبه على حسناته لكن روح عبد الله قاطعتهم بسؤالها ( هو انا ممكن أعرف بس اية اللي بيحصل؟).
يبدأ صوت اليمين وصوت اليسار في شرح المعادلة لروح عبد الله ( ببساطة كدة .. انت ذنوبك اكتر من الثواب اللي عملته في كل حياتك بذنب واحد.. ودا معناه انك غالبا مصيرك هيكون النار.. غالبا مش أكيد)، تفزع روح عبد الله لكنها تتدراك الموقف وتحاول أن تقنع صوت اليمين بإن ذنب وحيد لا يستحق ذهابها للنار وأنه من الممكن تدارك الموقف لكن صوت اليمين يهز رأسه نافيا في يأس مؤكدا أن الأمر غالبا انتهى ويقول له ( صعب جدا .. انت آخر ثواب عملته في حياتك كان من 48 ساعة بالظبط لما أطعمت مسكين وأنت مروح من الشغل) بعدها تقول له الروح ( ممممم .. لا استنى بقى .. انا امبارح عملت ثواب.. شخص شتمني وزنق عليا بعربيته وقلتله الله يسامحك)، اندهش وارتبك صوت اليمين وبدأ يبحث بتدقيق أكبر في الجدول الذي أمامه ثم قال ( مفيش عندي أي ثواب متسجل امبارح.. انت متأكد من الكلام دا؟)، لتؤكد روح عبد الله على ما قالته، ثم تبدء بعض المشاورات بين صوت اليمين وصوت اليسار تنتهي بقرار جديد.
قرر صوت اليمين واليسار نقل روح عبد الله لمعسكر سري جدا اسمه ( معسكر المتظلمين) بالأرض السادسة، معسكر يضم عدد من الأرواح التي تتظلم على مجموع عدد ذنوبها وحسناتها لحين مراجعة الدفاتر والتأكد من كل شيء لرفعها قبل حساب تلك الروح، معسكر مقره الأرض السادسة قبل أرض واحدة من جهنم، في حالة التأكد من تفوق الذنوب تهبط الروح أرض واحدة وتستقر في جهنم تتلقى عذابها، أما في حالة التأكد من تساوي الحسنات والذنوب أو تغلب الحسنات بالفعل، ترتقي الروح للسماء السابعة.
بعد رحلة طويلة لروح عبد الله مع صوت اليمين وصوت اليسار، تصل للمعسكر، أرض واسعة لم تدرك روح عبد الله مداها، في منتصف تلك الأرض هناك خنادق عميقة جدا تفرق بين مجموعة من الأراض الواسعة، فور وصول روح عبد الله تسلمها المسؤول عن الأرواح المتعلقة هناك.
نظر المسؤول لروح عبد الله نظرة مدققة، كأنه يحاول أن يراهن نفسه على أحقية ذهاب تلك الروح للجنة أو جهنم، بعدها بدأ في شرح نظام الأرض السادس لروح عبد الله، ذلك المعسكر يفرقه عن جهنم أرض واحدة، وبالتالي يعتبر نوعا من أنواع العذاب، لكنه يتميز بإن وجود الأرواح هنا يسمح لها باختيار طريقة العذاب التي قد تتحملها، عكس جهنم نفسها والتي تتعرض الروح فيها لأشد ألوان العذاب رغما عنها، هكذا قال المسؤول عن المعسكر لروح عبد الله.
دخلت الروح للأرض الوسطى بين تلك الخنادق، وجدت أرواحا كثيرة تنتظر النتيجة الفاصلة، الثواب الذي سينقل صاحبه من الأرض السادسة للسماء السابعة، بدأت روح عبد الله تدقق قليلا وتعرفت على أرواح كانت تعرفها في الدنيا، إذن يتم وضح بعض الأرواح المتعارفة في الدنيا معا في الأرض السادسة، تلك روح سليم عامر، كيف جاءت روحه إلى هنا، اندهشت روح عبد الله لأن عامر في الدنيا كان شخص ورع ومتدين أو هكذا كان يظهر، كيف تفوقت الذنوب عند ذلك الرجل عن الحسنات؟ بعد هذا الكم من الأعمال الصالحة التي كانت ظاهرة لمن حوله.
كان يعمل سليم في بيت من بيوت الله، يحث الناس على العبادة، ولا يكتفي بتشجيعهم ولكنهم يرهبهم ويتوعدهم في حالة إغفال أحدهم عن أحد الفروض أو المناسبات الدينية، كان يراه عبد الله حاضرا في حل كل منازعات المنطقة، ولم يصدق عبد الله أبدا أن سليم كان يتقاضى مقابل حل هذه المشكلات التبرع لبيت الله بالمال، ولكنه وجد سليم يعترف ذات مرة بل ويفتخر أنه يدخل لبيت الله أموالا تساعد الفقراء، حاول سليم عامر دائما أن ينفذ الصواب لكن من وجهة نظر التي أصابت أحيانا وأخطأت أحيانا أكثر.
دخل مسؤول المعسكر لسليم وتحدث معه قليلا، استنتجت روح عبد الله أن ذلك المسؤول يبدو أنه يعطيه خيارات العذاب هنا كما قال لروح عبد الله فور وصولها، وبالفعل ظهر من العدم كأس في يد روح سليم مليئة بالحمم شربها وهو يتألم ويتعذب بشدة، ثم تركه المسؤول وذهب لروح آخرى.
وبعد الانتهاء من هذه الروح وإنهاء خيار العذاب الذي تختاره بنفسها، توجه المسؤول لروح ثالثة، تكاد روح عبد الله على تلك الروح، بالفعل تعرفت عليها، أنها روح عالية، تلك الفتاة التي جمعتها قصة حب مع عبد الله أيام الجامعة.
عاش عبد الله وعالية سنوات الجامعة وهما يمنيان نفسهما بمستقبل باهر يقضيانه معا، خططا لبيت وأسرة وأطفال، اشترط عبد الله عليها العمل حتى الطفل الأول ووافقت عالية، تذكرت روح عبد الله أول قبلة بين عبد الله وعاليا، في رحلة للإسكندرية تابعة للجامعة على شاطيء ستانلي، بعدها ظل عبد الله يركض وهو يضحك ومبتهج كأنه امتلك الدنيا وما فيها، وبدون أي مقدمات خمدت شعلة الحب بينهما، انطفئت كشعلة نار وجدت نفسها فجأة في مواجهة أمطار يناير، فجأة تفرقا وكل منهما أصبح لديه أهداف جديدة وأحلام أخرى ومستقبل مستقل، كم مرة انتهى شغفك ناحية أحدهم فجأة؟ كم مرة انسحبت من منتصف حلم ظننت وهو بعيد أنه أعظم أحلامك؟، تحدث المسؤول مع روح عالية أيضا والتي يبدو أنها اختارت، فجأة ظهر عقرب ضخم لسعها لسعة من شدتها صرخة صرخة كأنها استمرت أربعين عاما، وفجأة تحرك المسؤول وبدأ ينظر في باقي الأرواح.
تحوم عين مسؤول المعسكر بين الأرواح، نظر لروح عبد الله نظرة مطولة وفجأة بدأ يقترب منها، وقف أمامها وأخبرها أن الدور جاء عليها لتختار نوع العذاب الذي ستتذوقه في معسكر الأرض السادسة، عرض المسؤول جميع أنواع العذاب، وبدأت الروح تفكر في أقلهما ألما، وعند شروعها في قول النوع الذي اختارته فجأة يظهر صوت اليمين مرة أخرى وينادي ( روح عبد الله آدم .. لقينا الثواب الأخير بتاعك ومشكلتك اتحلت).