الانتخابات الرئاسية بين ترامب وبايدن 2020 هي الأهم في تاريخ الولايات المتحدة.. كيف تحافظ التحالفات العسكرية على الولايات المتحدة "آمنة".. كيف سئَم الشعب الأمريكي من شعارات "حُماة القيم العالمية" ؟
رغم العديد من الحوادث واللحظات المصيرية التي شهدتها الجمهورية الأمريكية على مر تاريخها، يوجد شبه إجماع "استثنائي" بين المؤرخين وعلماء السياسة والدبلوماسيين ومسؤولي الأمن القومي وغيرهم من الخبراء على أن مخاطر الانتخابات الرئاسية الأمريكية بين الرئيس "دونالد ترامب" ونائب الرئيس السابق "جو بايدن في نوفمبر 2020 تعد الأهم في تاريخ الولايات المتحدة.
وفي تقرير
للباحث محمد محمود السيد على موقع مركز المستقبل للابحاث والدراسات المستقبلية،
يقول أن البعض يري أن المخاطر التي قد تُنتجها هذه الانتخابات ربما تتعدى الحوادث
التاريخية السابقة، بالنظر إلى المكانة المركزية التي تحتلها الولايات المتحدة
اليوم في النظام العالمي، بطريقة لم يكن الوضع عليها في أعوام 1800 و1860 و1932،
حيث كانت الإمبراطورية الأمريكية في بدايدتها وأقل مكانةً.
في مقاله
التحليلي المنشور بمجلة "السياسة الخارجية Foreign Policy"، عدد خريف 2020، بعنوان:
"الانتخابات الأهم على الإطلاق"، يحاول "مايكل هيرش" إثبات
مدى أهمية الانتخابات الأمريكية القادمة في تحديد مستقبل الأمة، بل والنظام
العالمي، لعدة عقود مقبلة، مُستعينًا في ذلك بآراء كبار خبراء ومحللي السياسة
الأمريكية، ومُستخدمًا النهج التاريخي الشيق.
مخاطر إعادة
انتخاب "ترامب"
يرى البعض أن
"ترامب" وشركاءه قد ألحقوا الضرر بالكثير من المؤسسات الديمقراطية
الأمريكية، وباتت إعادة انتخابه تهديدًا للتجربة الأمريكية وجمهورية القوانين
صاحبة الـ244 عامًا. فبعد الفترة الأولى التي تحدى فيها "ترامب"
الكونجرس والمحاكم علنًا، وشكّل السياسة الخارجية لخدمة مصالحه السياسية، ورفض
المعايير الانتخابية، وحوّل الحزب الجمهوري إلى "دُمية" في يده، فإن
عودته إلى السلطة من شأنها إضفاء الشرعية على هذه السياسات "العبثية"،
وما يحمله ذلك من تهديد للديمقراطية الأمريكية.
يقول
"إدوارد جيه واتس"، المؤرخ من جامعة كاليفورنيا، إنه إذا أعيد انتخاب
"ترامب"، فإن الأعراف والقيود الديمقراطية الأمريكية ستختفي تمامًا،
بطريقة تعكس ما حدث في الجمهوريات السابقة، وإنه حتى لو فاز "بايدن"،
فإن تعافي الولايات المتحدة سيستغرق وقتًا طويلًا.
ويؤكد
"تشارلز كوبتشان"، أستاذ العلوم السياسية بجامعة جورج تاون، أنه إذا
أعيد انتخاب "ترامب"، فلن يكون بمقدور الأمريكيين والناس في جميع أنحاء
العالم القول إن الناخبين الأمريكيين ارتكبوا خطأ، لأن هذا سيكون إشارة وتأكيدًا
على أن هذا هو الاتجاه الذي يريد الأمريكيون أن يسلكوه.
وفي الواقع،
ونظرًا لأن الولايات المتحدة تقع في مركز استقرار النظام العالمي، فيمكن القول إن
انتخابات عام 2020 توازي ترتيبات عالمية مهمة أخرى، غيّرت من مصير القوى العظمى
والإمبراطوريات والبنى الدبلوماسية للنظام والاستقرار العالمي. فوفقًا لـ"جون
إكنبيري"، الأستاذ في جامعة برينستون، ففوز "ترامب" يعني استمرار
انهيار النظام الليبرالي بالكامل الذي تأسس بعد عام 1945، وسيبدأ حلفاء الولايات
المتحدة في البحث عن قائد ومُنظِّم جديد للنظام الدولي، والبحث عن خطط جديدة.
ويؤكد "جوزيف ناي"، الأستاذ في جامعة هارفارد، على المعنى نفسه، حيث
ينقل عن دبلوماسي بارز من دولة أوروبية حليفة قوله: "يمكننا حبس أنفاسنا لمدة
أربعة أعوام، ولكن ثمانية أعوام.. كثيرة جدًّا".
فعلى مدى
الأعوام الأربعة السابقة، سخر "ترامب" من الحلفاء الأوروبيين القدامى.
ومؤخرًا، في نوبة غضب، أعلن أنه سيسحب آلاف القوات الأمريكية من ألمانيا. ناهيك عن
أن التعامل الأمريكي غير الكفؤ مع جائحة "كوفيد-19"، على كافة
المستويات، جعل أوروبا تنظر إلى واشنطن بعين الريبة والشك.
ففي أغسطس 2020،
صنّف تقرير خاص لمجلة "السياسة الخارجية" الولايات المتحدة في المرتبة
31 من بين 36 دولة، وفقًا لاستجابتها لوباء الفيروس التاجي، وجاءت متأخرة عن:
البرازيل، وإثيوبيا، والهند، وروسيا. ويتحدث التقرير عن عدم قدرة الحكومة
الفيدرالية على تقديم استجابة علمية مناسبة، وعدم كفاية الإنفاق على الرعاية
الصحية الطارئة، وعدم كفاية الاختبارات وأسرّة المستشفيات، ناهيك عن فشلها في
تخفيف عبء الديون المحدودة عن المواطنين.
وإجمالًا، يرى
الخبراء أن فشل الحكومة في مواجهة فيروس كورونا أظهر بوضوح المشاكل العميقة التي
يعاني منها النظام الأمريكي، بدايةً من ضعف البنية التحتية للرعاية الصحية،
ومرورًا بعدم المساواة في الدخل، ووصولًا إلى المشاكل العرقية المستفحلة.
سيناريو فوز
"بايدن"
يقول العديد من
النقاد والباحثين إن أفضل أمل هو أن يُهزَم "ترامب" بقوة في نوفمبر، وأن
يقبل بهذه النتيجة. ففي نهاية المطاف، أصبح العالم ينظر إلى "ترامب" على
أنه انحراف تاريخي غريب، وظاهرة فريدة من نوعها، ومن غير المُرجح أن تظهر هذه
الشوفينية والنرجسية وعدم الكفاءة مرة أخرى، سواء في رئيس جمهوري أو ديمقراطي.
وفي ظل سيناريو
فوز "بايدن"، السياسي صاحب الخبرة الدولية العميقة والرجل الملتزم
بالتحالفات الأمريكية، ونائبته متعددة الثقافات "كامالا هاريس"؛ من
المتوقع أن تشهد السياسات الأمريكية تحركات سريعة لاستعادة هيبة واشنطن، وذلك من
خلال عكس أسوأ إخفاقات "ترامب"، سواء على مستوى مواجهة فيروس كورونا، أو
قضية الاستقطاب السياسي الأمريكي، أو قضايا الاقتصاد والاستقرار العالمي وتغير
المناخ.
فقد وعد
"بايدن" بالعمل على تعزيز الاتفاق النووي الإيراني واتفاقية باريس بشأن
تغير المناخ، والتي ساعد في الدفاع عنها كنائب للرئيس السابق "باراك
أوباما". ومن المتوقع كذلك أن يحاول "بايدن" إحياء معاهدة الصواريخ
النووية متوسطة المدى (INF) التي تجاهلها "ترامب"، والبدء في محادثات لتمديد اتفاقية
خفض الأسلحة النووية الجديدة (ستارت-3)، والتي وُقِّعت في عهد أوباما، وستنتهي بعد
أسابيع قليلة من ولايته في 2021.
ومن المرجح
أيضًا أن يسعى "بايدن" إلى استعادة اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادئ (TPP)، وهي الصفقة التجارية
الأكثر شمولًا في التاريخ، والتي صُممت لاستبعاد بكين والضغط عليها لقبول معايير
التجارة العادلة والمنفتحة، وبالتالي يمكن لبايدن باستعادته تلك الاتفاقية أن يفعل
أكثر بكثير مما فعله "ترامب" لمواجهة الصين.
في هذه الأثناء،
فإن الكونجرس "المُنهك والمستقطب"، والذي فقد الكثير من فاعليته بسبب
شدة الانقسامات والتحقيقات ومساءلة "ترامب" على مدى الأعوام الأربعة
الماضية، قد يبدأ في العمل بشكل أكثر فاعلية مرة أخرى، خاصة إذا فاز الديمقراطيون
بمجلس الشيوخ ومجلس النواب، وانتهى المأزق التشريعي.
ولكن حتى في ظل
هذا السيناريو، من الصعب تخيل أن تعود الأمور إلى ما كانت عليه قبل
"ترامب". سيجد "بايدن"، على سبيل المثال، صعوبة في إحياء
معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى (INF)، واتفاق الشراكة عبر المحيط الهادئ (TPP)، ويرجع ذلك جزئيًّا إلى
أنه يجب عليه استيعاب الجناح التقدمي القوي في حزبه، الذي يرفض اتفاقيات التجارة
الحرة غير المقيدة، ويرفض كذلك الالتزام المفرط بالوجود العسكري الأمريكي في
الخارج.
هل
"ترامب" استثناء أمريكي؟
رغم كل ما سبق،
فإن سياسات "ترامب" لم تأتِ من العدم. فقد كان لدى "ترامب"
الكثير من الدعم الشعبي ولا يزال كذلك، أي إن سياساته تجد دعمًا وصدى في الشارع،
لذا يقول "تشارلز كوبتشان" إن السياسة الأمريكية لن تعود إلى سابق
عهدها، حتى إذا تولى "بايدن" مقاليد الحكم، حيث النظام العالمي القائم
على الهيمنة الأمريكية ونظام المؤسسات القائم على المعاهدات لم يعد يروق
للأمريكيين، وهو ما جعله يدّعي أن "تبني أمريكا للعالمية هو انحراف أكثر من
المعتاد في تاريخ الولايات المتحدة"، أي إن الفترة ما بين 1945 إلى 2016 كانت
هي الانحراف الحقيقي في تاريخ الولايات المتحدة.
وهنا تتضح مخاوف
حلفاء الولايات المتحدة من أن واشنطن قد علقت في الحتمية التاريخية، التي تدفع
بانهيار القوى العظمي بفعل إرادة داخلية بالأساس، حتى تختفي تمامًا. ولطالما جادل
مفكرون واقعيون بارزون مثل "جون ميرشايمر" بأن الأممية الليبرالية على
النمط الأمريكي تحتوي على بذور تدميرها، وهي: الطموح المُفرط، والتوسع.
في العقود
الأخيرة، استسلم كل من الرؤساء الجمهوريين والديمقراطيين لطموح التوسع المُفرط، من
فيتنام إلى البوسنة إلى العراق. وفي عام 2016، أدرك "ترامب"، على عكس
منافسته الديمقراطية "هيلاري كلينتون"، أن العديد من الأمريكيين قد
سئموا من كونهم رُعاة وحُماة للقيم العالمية، وأن ذلك الدور قد أثّر عليهم بالسلب،
وخاصة الطبقة الوسطى الأمريكية.
وهكذا، كان
"ترامب" -بطريقته الفظة- يحرك أعمق التقاليد الأمريكية ومخاوف المؤسسين
الأوائل، الذين كانوا دائمًا قلقين بشأن تجاوز الحد في الصراعات الخارجية، وحذروا
باستمرار من آثارها المدمرة للذات، بما في ذلك صعود الديماجوجيين مثل
"ترامب". ومن أشهر ما قاله "جون كوينسي آدامز"، الرئيس السادس
للولايات المتحدة الأمريكية، في عام 1821، إن أمريكا يجب ألا تذهب "بحثًا عن
الوحوش لتدميرها" في الخارج. وقال "آدامز" إن القيام بذلك من شأنه
أن يفسد شخصية الأمة.
ومن ثَمَّ قد
تجد إدارة "بايدن" أن الشعب الأمريكي لم يعد قادرًا على مهمة قيادة
العالم، ولم يعد يرغب في تمويل والحفاظ على أفكار أسلافهم (النظام الدولي
الليبرالي). فنظام التعليم في الولايات المتحدة معطوب بشدة، والعديد من الناخبين
ببساطة لم يعودوا يفهمون فوائد نظام التجارة الحرة العالمي، أو كيف تحافظ شبكة من
التحالفات العسكرية على الولايات المتحدة آمنة، أو كيف صدت واشنطن التحديات
العالمية من خلال دعم المؤسسات الدولية التي أنشأتها.
لذا، فإن
"ترامب" نتيجة أكثر من كونه سببًا، فهو استجابة لقوى تاريخية أكبر. لقد
صعد إلى الرئاسة من العدم على منصة شعبوية (أمريكا أولًا)، فالعديد من الأمريكيين
كانوا غاضبين من الخيارات السياسية السيئة التي عُرضت عليهم من قبل الجمهوريين
والديمقراطيين في السابق، سواء على مستوى النهج المتعجرف للأحزاب تجاه الاقتصاد
الصيني السريع، الذي كلّف الطبقة الوسطى الأمريكية ملايين الوظائف، أو الغزو
الكارثي للعراق عام 2003.
الخلاصة والدرس
الأساسي الذي كان سببًا في انهيار الإمبراطورية الرومانية قديمًا، ويبدو أنه يتحقق
حاليًّا في الولايات المتحدة؛ أنه من الممكن لدولة قوية أن تحتفظ بـ"وهم
الديمقراطية" أو "القيم الجمهورية" لفترة طويلة بعد أن أصبحت هذه
القيم غير وظيفية بالفعل.