هيلانة سيداروس.. أول طبيبة مصرية في الشرق الأوسط.. رحلة كفاح من الرياضيات إلى الطب.. امرأة لا تشيخ.. كيف حوّلت الظلام إلى ضوء يُنير الدروب؟
السبت 12/سبتمبر/2020 - 08:24 م
تضرب لنا المرأة المصرية دائما مثالا جليا في الكفاح والنضال الإنساني، لتكون نموذج لسيدات العالم العربي، وتصنع شعاع أمل يضيئ درب المقاتلات خلف أحلامهن، قصتنا اليوم عن سيدة أبهرت الجميع، وتحدت الصعاب في سبيل التربع على عرش القمة، أنها هيلانة سيداروس أول طبيبة مصرية في الشرق الأوسط.
الركض فوق أرض مهتزة
كانت البداية التي انطلقت منها من أصعب البدايات على الإطلاق، حيث ولُدت "هيلانة" بمدينة طنطا في 13 يناير 1904، في تلك الفترة كان تعليم الفتيات قاصرا حتى السنة الثالثة الإبتدائية فقط، وغير مصرح لهن بالتقدم إلى الامتحانات العامة ولا حتى شهادة إتمام الدراسة الابتدائية، كان قيادتهن للسيارات أمر يثير الدهشة والاستغراب وغير مألوف، هذا بالإضافة إلى أن المهنة الوحيدة التي كانت متاحة للمرأة هي مهنة التدريس!!.
الإصرار يصنع المعجزات
لكن القدر كان له رأي آخر، وفي مساء السبت 23 أكتوبر 1909 عقدت جمعية الوفيق بمقرها اجتماعا عاما حضره إلى جانب أعضائها عدد كبير من أهل الرأى والفكر لإنشاء كلية للبنات، والهدف الأول من إنشاء هذه الكلية هو أعداد جيل جديد من الفتيات القبطيات، أول ما يلقن لهن هو تاريخ مصر، وأن تصوغ قلوب طالباتها وأخلاقهن في القالب الاجتماعى القائم على حب العلم والوطن والفضيلة، – وإن تكون تربية الفتاة القبطية تربية راقية تضعها في مصاف البنات الأجنبيات، ولم يكن للعائلات القبطية من سبيل للوصول إلى هذا الهدف سوى عدد قليل من مدارس الارساليات الأجنبية.
أنبثق عن هذا الاجتماع لجنة فنية أكدت على ضرورة الاهتمام بتاريخ مصر، تاريخ الكنيسة القبطية، مبادئ الديانة المسيحية واللغة القبطية والأخلاق. نظراً لتفوقها في دراستها وتمتعها بذكاء شديد أرسلها والدها للالتحاق بالقسم الداخلي بمدرسة السينية بالقاهرة ثم التحقت بعد ذلك بكلية إعداد المعلمات إذ لم يكن أمامها اختيار آخر سوى هذا الطريق، كانت مدة الدراسة بهذه الكلية أربع سنوات، وكانت جميع التلميذات يقمن بالقسم الداخلي كما كان التعليم مجانى، في تلك الكلية كانت ناظرة المدرسة والمدرسات جميعهن إنجليزيات باستثناء مدرس اللغة العربية فقد كان شيخا يرتدى الزى الأزهرى.
قصة كفاح من الرياضيات إلى الطب
بعد أن أنهت دراستها بالسنة الثانية بكلية إعداد المعلمات تم ترشيحها على بعثة حكومية للسفر إلى إنجلترا لدراسة الرياضيات، وذلك لتوفقها في هذا العلم، فرحت هيلانة بهذا الترشيح كما أن أسرتها وافقتها على السفر لما توسمت فيها من نبوغ وعبقرية في التفكير الرياضي.
سافرت هيلانة إلى إنجلترا لدراسة الرياضيات وبعد فترة من بداية دراستها علمت أن الدراسة ستقتصر على ما يعادل شهادة إتمام الدراسة الثانوية في مصر وفي نهاية الدراسة ستحصل على خطاب يحدد تخصصها.. غضبت هيلانة لهذا الأمر وسارعت بارسال خطاب إلى المستشار الثقافى بالسفارة المصرية بلندن، تطلب فيه موافقته على رغبتها في العودة إلى مصر لاستكمال دراستها هناك، وبعد مضى أسبوع من إرسال خطابها حضر المستشار الثقافى إلى المدرسة بلندن، التي كانت تدرس بها، وطلب مقابلتها وقدم لها عرضا لدراسة الطب.
وفي ذلك الوقت كانت جمعية كيتشنر التذكارية قد تأسست في مصر بهدف إقامة مستشفى للمرضى من النساء فقط، على أن تتولى إدارتها طبيبات مصريات، ولهذا تقرر تدريب فريق من الطالبات المصريات بإنجلترا وقد أخُتيرت هيلانة واحدة من أعضاء هذا الفريق.
وافقت هيلانة على هذا الترشيح الجديد كما وافقت أسرتها أيضا، وبعد أن اجتازت الامتحان النهائي للمرحلة الثانوية بإنجلترا التحقت بمدرسة لندن الطبية للنساء مع خمس مصريات أخريات، كان ذلك عام 1922، كان تقدمها لدراسة الطب في إنجلترا سبب دهشة الأساتذة الإنجليز، ولأنهم أشفقوا عليها من مشقة دراسة الطب عرضوا عليها أن تتخصص في مجال التعليم في رياض الأطفال، لكنها رفضت بإصرار وقبلت التحدى بدراسة الطب.
أول طبيبة مصرية في الشرق الأوسط
كانت الأسابيع الأولى من دراستها في الطب، شاقة للغاية إذ كانت مادة التشريح تسبب لها آلاما وضيقا، لكن بعد فترة تقبلت نوعية الدراسة في الطب واجتازت فترة الدراسة بنجاح وتفوق، وفي عام 1929 أصبحت طبيبة مؤهلة لممارسة مهنة الطب وهي تبلغ من العمر 25 عاما، لتصير بذلك أول طيبة مصرية في الشرق الأوسط.
من بيريطانيا إلى مصر
عادت هيلانة إلى مصر عام 1930 ومعها شهادة الطب والتوليد من الكلية الملكية البريطانية والتحقت للعمل بمستشفى كيتشنر بالقاهرة، في ذلك الوقت كانت الطبيبة المقيمة بالمستشفى إنجليزية وبعد أن عادت إلى وطنها شغلت هيلانة مكانها بكفاءة.
وبعد انتهاء الفترة الإلزامية التي ينبغى أن تقضيها في المستشفى، عرض عليها على بك فؤاد العمل في رعاية الطفولة، كما ساعدها الدكتور عبد الله الكاتب في فتح عيادتها في باب اللوق بالقاهرة حينما وجد فيها بزور الإبداع، وفي نفس الوقت كانت تقوم بعمليات الجراحة والتوليد بالمستشفى القبطى بالقاهرة بناء على طلب من الدكتور نجيب باشا محفوظ، رائد علم أمراض النساء والتوليد بمصر.
طبيبة نبيلة
كان من بين آلاف الأطفال الذين ولدوا على يديها الأستاذ الدكتور طارق علي حسن نجل صديقتها الرائدة في علم الكيمياء الدكتورة "زينب كامل حسن"، وفي كثير من الأحيان كان يتم استدعائها في منتصف الليل، لمساعدة سيدة على وشك الولادة، فكانت تقود سيارتها، وتذهب لمقر إقامة السيدة للوقوف بجانبها، لذلك كانت ترى الطب مهنة صعبة تحتاج إلى تضحيات كثيرة وأنه بدون الرغبة الشديدة في دراسة الطب يصعب الاستمرار فيها.
فبرغم كل هذه القيود التي كانت هي سمات تلك الفترة فإن هيلانة كانت طفلة ضعيفة البنية فلم تتمكن من الذهاب إلى المدرسة في السن المقررة، لذلك التحقت بكلية البنات القبطية وهي في الثامنة من عمرها، وكانت تحلم بأن تكون طبيبة، لتعالج المرضى وتخفف عنهم آلامهم على الرغم من أن الأرض كانت تهتز من تحت أقدامها في ذلك الوقت.
تاريخ في النضال السياسي
ولم تكتف هيلانة بالنبوغ العلمي بل كان لها أثر بالغ في محيطها الاجتماعي فبعد قيام ثورة 1919 شاركت وهي أبنه الخامسة عشرة من العمر في المظاهرات التي قادتها بعض الفتيات والسيدات في ذلك الوقت، واستمرت في المشاركة في الكفاح الوطني للمرأة المصرية ضد الاحتلال الإنجليزى.
كانت تتردد على منزل سعد زغلول الذي عُرف باسم "بيت الأمة"، حيث كانت تشارك في اجتماعات الحركة النسائية بقيادة السيدة صفية زغلول من أجل مناهضة الاحتلال الأجنبي ومقاطعة البضائع الإنجليزية ثم انضمت إلى جمعية هدى شعراوي.
امرأة لا تشيخ
حتى بعد أن تجاوزت السبعين من عمرها ورأت أنه ليس من الصالح لمرضها أن تستمر في العمل بسبب الشيخوخة التي كانت قد أدركتها واستقالت من عملها، انضمت إلى الجمعية الخيرية القبطية للعمل الاجتماعي، تلك الجمعية التي اهتمت بإنشاء المستشفى القبطى بالقاهرة كأول مستشفى وطنية في مصر وذلك بغرض توفير مكان لإقامة المرضى المصريين وتم افتتحاها عام 1926.
وبعد أن وضعت هيلانة حجر الأساس بعدة سنوات بدأت تظهر مستشفيات وطنية أخرى بالقاهرة والإسكندرية مثل مستشفى المواساة بالإسكندرية والمستشفى القبطى بالإسكندرية ومستشفى الجمعية الخيرية الإسلامية بالعجوزة.
أمل ينير الدروب
ترجمة هيلانة العديد من الكتب للأطفال ومشاهير الرجال في فترة عملها بالجمعية الخيرية القبطية وكانت في الفترة الأخيرة من حياتها تعيش شيخوخة صالحة، بعد طوعت كل حياتها في خدمة الإنسان والإنسانية، لترحل عن عالمنا تاركة خلفها رصيدا ثريا من العزم والكفاح والأمل، يُنير دروب القادمين خلفها.