تزامنا مع ذكرى رحيله.. كيف قدمت السينما المصرية شخصية ابن رشد ؟
تحل اليوم ذكرى رحيل الفيلسوف الأندلسي ابن رشد الذي درس الفقه، والأصول، والطب، والرياضيات، والفلك والفلسفة، وبرع في علم الخلاف، مارس الطب وتولى قضاء قرطبة، حيث نشأ في أسرة من أكثر نشأ في أسرة من أكثر الأسر وجاهة في الأندلس والتي عرفت بالمذهب المالكي، حفظ موطأ الإمام مالك، وديوان المتنبي.
درس ابن رشد ،الفقه على المذهب المالكي والعقيدة على المذهب الأشعري، ويعد ابن رشد من أهم فلاسفة الإسلام ، دافع عن الفلسفة وصحح للعلماء وفلاسفة سابقين له كابن سينا والفارابي فهم بعض نظريات أفلاطون وأرسطو.
قدمه ابن طفيل لأبي يعقوب خليفة الموحدين فعينه طبيباً له ثم قاضياً في قرطبة. تولّى ابن رشد منصب القضاء في إشبيلية، وأقبل على تفسير آثار أرسطو، تلبية لرغبة الخليفة الموحدي أبي يعقوب يوسف، تعرض ابن رشد في آخر حياته لمحنة حيث أبعده أبو يوسف يعقوب إلى مراكش وتوفي فيها عام 1198، ونرصد في هذا التقرير كيف قدمت السينما المصرية شخصية ابن رشد .
فيلم المصير
قدمت السينما المصرية شخصية ابن رشد من خلال فيلم المصير الذي عرض عام 1997 وحظى بتفاعل ضجة جماهيرية كبيرة طوال فترة طرحه، حيث حصل الفيلم على المرتبة 43 ضمن قائمة أفضل 100 فيلم في السينما العربية حسب استفتاء لنقاد سينمائيين ومثقفين قام به مهرجان دبي السينمائي الدولي في 2013 في الدورة العاشرة للمهرجان، ويعد الفيلم بطولة كل من نور الشريف وليلى علوي ومحمود حميدة وهاني سلامة وخالد النبوي ومحمد منير وسيف عبد الرحمن وعبد الله محمود وأحمد فؤاد سليم وروجينا ومحمد رجب، ومن تأليف وإخراج يوسف شاهين .
تدور أحداث الفيلم في القرن الثاني عشر الميلادي في الأندلس، وخلال فترة حكم الخليفة (أبو جعفر المنصور)، يصير الفيلسوف (ابن رشد) في معترك النيران مع السلطة السياسية ممثلة في الخليفة الذي كان صديقًا له في الماضي وصار يكن له مشاعر العداء، ومع السلطة الدينية المتطرفة التي تنجح في تجنيد ابن المنصور اﻷصغر بين صفوفها.
نشأة ابن رشد
ولد ابن رشد في 14 أبريل عام 1126 ونشأ في كنف بيت من بيوت العلم لأسرة أندلسية تنحدر من سرقسطة من الثغر الأعلى بالأندلس، والده هو أبو القاسم أحمد بن أبي الوليد، كان فقيها له مجلس يدرس فيه في جامع قرطبة، وله تفسير للقرآن في أسفار، وشرحٌ على سنن النسائي وتولى القضاء في قرطبة عام 532 هـ، بينما كان ابنه ابن رشد آنذاك في الثانية عشرة من عمره. فترك أبو القاسم القضاء لينقطع إلى التدريس والتأليف، في الفقه والتفسير والحديث، إلى أن توفي سنة 563 هـ عندما كان ابنه في أوج نشاطه الفلسفي. فعايش ابن رشد الحفيد في شبابه أواخر العصر المرابطي، وتميز ذلك العصر بسلطة الفقهاء على الفكر والثقافة والمجتمع والسياسة. لم يدرك ابن رشد الحفيد ابن رشد الفقيه الجد، الذي كان من أعيان المالكية وقاضي الجماعة وإمام الجامع الأعظم بقرطبة، وواحدا من كبار مستشاري أمراء الدولة المرابطية.
درس ابن رشد الفقه على يدي الفقيه الحافظ أبي محمد بن رزق، واستظهر كتاب الموطأ حفظا للأمام مالك على يدي أبيه الفقيه أبي القاسم، ودرس، أيضا، على أيدي الفقيه أبي مروان عبد الملك بن مسرة، والفقيه ابن بشكوال وأبي بكر بن سمحون، وأبي جعفر بن عبد العزيز، الذي أجاز له أن يفتي في الفقه مع الفقيه أبي عبد الله المازري. كما درس على يد أبي جعفر هارون، وأبي مروان بن جبرول من بلنسية، وكان أقرب من أبي بكر بن زاهر (أحد أبناء ابن زهر)، وفي الفلسفة تأثر بابن باجة، كما كان صديقا لابن طفيل.
تولى القضاء عام 1169م في إشبيلية ثم في قرطبة. وحين استقال ابن طفيل من طبابة الخليفة اقترح اسم ابن رشد ليخلفه في منصبه، فاستدعاه الخليفة الموحدي أبو يعقوب يوسف إلى مراكش سنة 578هـ وجعله طبيبه الخاص، وقربه منه وقضى في مراكش زهاء عشر سنوات. وكان الخليفة أبو يعقوب يستعين بابن رشد إذا احتاج الأمر للقيام بمهام رسمية عديدة، ولأجلها طاف في رحلات متتابعة في مختلف أصقاع المغرب؛ فتنقَّل بين مراكش وإشبيلية وقرطبة، ثم ولاَّه منصب قاضي الجماعة في قرطبة ثم في إشبيلية، فلما مات أبو يعقوب يوسف وخلفه ابنه المنصور الموحدي زادت مكانة ابن رشد في عهده ورفعة وقرَّبه إليه. كان ابن رشد عضوا ضمن هيئة من هيئات الحكم الموحدي التي كان لها مهام كثيرة على رأسها مهام التكوين العلمي وتشكيل النظام العقائدي للدولة.
ولكن كاد له بعض المقرَّبين من الأمير، فأمر الأمير بنفيه وتلامذته إلى قرية اليسانة التي كان أغلب سكانها من اليهود، وأحرق كتبه، وأصدر منشورًا إلى المسلمين كافَّة ينهاهم عن قراءة كتب الفلسفة، أو التفكير في الاهتمام بها، وهَدَّد مَنْ يُخَالِف أمره بالعقوبة. وبقي بتلك القرية لمدة سنتين، وبعد تأكد السلطان من بطلان التهمة السياسية التي كانت وراء تلك النكبة عفا عنه واستدعاه من جديد إلى مراكش وأكرم مثواه كأحد كبار رجال الدولة. ثم إن السلطان نفسه أخذ في دراسة الفلسفة والاهتمام بها أكثر من ذي قبل. ولكن الفيلسوف لم يهنأ بهذا العفو فأصيب بمرض لم يمهله سوى سنة واحدة مكث بها بمراكش حيث توفي سنة 595هـ/ 1198م. وقد دفن بها، قبل أن تنقل رفاته في وقت لاحق إلى مسقط رأسه قرطبة.
ونرى الباحثة الإسبانية ماريبيل فييرو من معهد دراسة الإسلام ومجتمعات العالم الإسلامي أن نكبة ابن رشد، لا ينبغى أن ينظلر إليها من منظور التضييق على الفلسفة، بل ينبغي أن ينظر إليها باعتبارها نتيجة من نتائج التوتر الداخلي في حكم الموحدي
يرى ابن رشد أن لا تعارض بين الدين الإسلامي والفلسفة، ولكن هناك بالتأكيد طرقاً أخرى يمكن من خلالها الوصول لنفس الحقيقة المنشودة. ويقول بأن الروح منقسمة إلى قسمين اثنين: القسم الأول شخصي يتعلق بالشخص والقسم الثاني فيه من الإلهية ما فيه. وبما أن الروح الشخصية قابلة للفناء، فإن كل الناس على مستوى واحد يتقاسمون هذه الروح وروح إلهية مشابهة. ويدعي ابن رشد أن لديه نوعين من معرفة الحقيقة، الأول معرفة الحقيقة استناداً على الدين المعتمد على العقيدة وبالتالي لا يمكن إخضاعها للتمحيص والتدقيق والفهم الشامل، والمعرفة الثانية للحقيقة هي الفلسفة، والتي ذَكر بأن عدداً من النخبويين الذين يحظون بملكاتٍ فكريةٍ عاليةٍ توعدوا بحفظها وإجراء دراساتٍ جديدةٍ فلسفية.
كان ابن رشد مغرماً بعلوم الفلك منذ صغره، فكان يلاحظ الفلكيين حوله يتكاتفون لمعرفة بعض أسرار هذه السماء في وقت الظلام، وحين بلغ الخامسة والعشرين من عمره بدأ ابن رشد يتفحص سماء المغرب من مدينته مراكش والتي من خلالها قدم للعالم اكتشافات وملاحظات فلكية جديدة، واكتشف نجماً لم يكتشفه الفلكيون الأوائل. وكان ابن رشد يتمتع بملكة عقلية باهرة، فكان يناقش نظريات بطليموس بل إنه نبذها من أصلها وأبدلها بنماذج جديدة تعطي تفسيرات أفضل لحقيقة الكون، وقدم للعالم تفسيراً جديداً لنظرية رشدية جديدة سميت «اتحاد الكون النموذجي». ومن بعض انتقاداته لنظريات بطليموس حول حركة الكواكب أن قال: «"من التناقض للطبيعة أن نحاول تأكيد وجود المجالات الغريبة والمجالات التدويرية، فعلم الفلك في عصرنا لا يقدم حقائق ولكنه يتفق مع حسابات لا تنطبق مع ما هو موجود في الحقيقة".».
ثم انطلق يقدم الانتقادات الحصيفة حيال بعض الفرضيات التي قدمها الفلكيون في عصره. ثم قام بالمشاركة بوصف القمر بغير الواضح والغامض، وقال بأنه يحمل طبقات سميكة وأخرى أقل سماكة وتجتذب الطبقات السميكة نور الشمس أكثر من الطبقات الأقل سمكاً. وقدم للعالم وللغرب أول التفسيرات البدائية والقريبة علمياً لأشكال البقع الشمسية.
انطلق ابن رشد في آرائه الأخلاقية من مذهبَي أرسطو وأفلاطون، فقد اتفق مع أفلاطون أن الفضائل الأساسية الأربع هي (الحكمة والعفة والشجاعة والعدالة)، لكنه اختلف عنه بتأكيده أن فضيلتي العفة والعدالة عامتان لكافة أجزاء الدولة (الحكماء والحراس والصناع)، وهذه الفضائل كلها توجد من أجل السعادة النظرية، التي هي المعرفة العلمية الفلسفية، المقصورة على «الخاصة». وقد قَصَرَ الخلود على عقل البشرية الجمعي الذي يغتني ويتطور من جيل إلى آخر. وقد كان لهذا القول الأخير دورٌ كبير في تطور الفكر المتحرِّر في أوروبا في العصرين الوسيط والحديث. وأكد ابن رشد على أن الفضيلة لا تتم إلا في المجتمع، وشدَّد على دور التربية الخلقية، وقد بسط ابن رشد أهم آرائه الأخلاقية من خلال شروحه على الأخلاق إلى نيقوماخوس لأرسطو وجوامع السياسة لأفلاطون. وأناط بالمرأة دورًا حاسمًا في رسم ملامح الأجيال القادمة، فألحَّ على ضرورة إصلاح دورها الاجتماعي في إنجاب الأطفال والخدمة المنزلية. وقد قال بعض الباحثين": «"لقد تساءل الفيلسوف ابن رشد في القرن الثاني عشر الميلادي وهو يعاين انطفاء آخر أنوار الحضارة العربية التي سمت في الشرق الأوسط وأسبانيا إلى ذرى شاهقة عما إذا لم يكن هذا الانحطاط يرجع جزئياً على الأقل إلى الوضع الذي حبست فيه المرأة، وإلى انتباذها خارج الحياة الاجتماعية.".»
ولم يتبع ابن رشد الأسلوب الاستقرائي في الفيزياء، والذي طوره البيروني في ظل العالم الإسلامي، بل كانت طريقته أقرب إلى الفيزياء الحديثة منه إلى طريقة البيروني. بل كان كما وصفه مؤرخ العلوم، روث جلاسنر، عالمًا مفسرًا استحدث عدة فرضيات جديدة عن الطبيعة عن طريق مناقشة الكتابات القديمة، ولا سيما تلك التي ألفها أرسطو. ونظرًا إلى منهجه وأسلوبه، فقد صوره الكثيرون على أنه مجرد تابع ممتثل لأرسطو وليس مبتكرًا أو مجددًا، ولكن يرى جلاسنر أن أعمال ابن رشد كانت مهدًا لنظريات وأفكار مبتكرة في الفيزياء، ولا سيما شرحه لنظرية أرسطو المعروفة بـ «الطبيعة الصغرى» وكذلك نظرية المواضع المتتالية لوصف الحركة، والتان تبناهما العالم الغربي وصارت لهما أهمية كبيرة في تطور الفيزياء ككل. وكذلك صاغ ابن رشد تعريفًا للقوة على أنها «معدل بذل الشغل الذي يؤثر في حركة الجسم المادي» - وهو تعريف مقارب لمفهوم القدرة في سياق الفيزياء الحديثة.
واستفاض ابن رشد في شرح أفكاره عن علم النفس من خلال تعليقاته الثلاثة التي عقب فيها عن محاضرة أرسطو بعنوان «عن الروح». فقد أبدى اهتمامًا كبيرًا بتفسير ذكاء الإنسان مستخدمًا الأساليب الفلسفية ومستندًا على تفسير أفكار أرسطو. وقد تبدلت مواقفه بصدد هذا الموضوع طوال فترة عمله مع تطور أفكاره. وفي تعليقه القصير، أول أعماله الثلاثة، تتبع ابن رشد نظرية ابن باغة التي تزعم بوجود «عقل مادي» يختزن صورًا معينة عن جميع الأشياء والمفاهيم التي يصادفها الإنسان. ويسخر «العقل الفعال» تلك الصور في تأسيس المعرفة الكلية عن هذا المفهوم. وفي تعليقه الأوسط، انتقل ابن رشد في نقاشه إلى أفكار الفارابي وابن سينا، قائلًا أن العقل الفعال هو ما يمنح البشر قدرة الفهم بصفة عامة، والتي تعرف بالعقل المادي. ومتى تصادف الإنسان في تجاربه الشخصية بمفهوم معين لفترة كافية، تنشط تلك القدرة، وتمنح صاحبها المعرفة الكلية عن هذا المفهوم (وهي فكرة مشابهة تمامًا لمفهوم الاستقراء في المنطق).
وفي تعليقه الأخير (وهو أطولهم وأكثرهم إسهابًا) اقترح هو الآخر نظرية أخرى عرفت باسم نظرية «وحدة الفكر». واقترح فيها بوجود عقل مادي واحد فقط، وهو لدى جميع البشر بصفة متطابقة، منفصلًا عن أجسادهم البشرية. وحتى يتمكن ابن رشد من تفسير أفكار الأفراد المختلفة، لجأ إلى استخدام مفهوم جديد سماه «الفكر» (باللاتينية cogitatio)، وهو عملية تتحقق بداخل أمخاخ البشر تشتمل لا على السعي إلى المعرفة الكلية، بل على «التدبر الفعال في الأشياء المعينة التي يصادفها الإنسان». تصور ابن رشد أن الذكاء قوة إنسانية غير متمايزة وخالدة. لكن من خلال الخيال، تغتني تجربة الفرد وتتفرد فيه قوة العقل، وتصبح داخلية.
لاحقًا صارت تلك النظرية محل جدل حينما دخلت أول مرة أوروبا المسيحية؛ ففي عام 1229، كتب توما الأكويني نقدًا مفصلًا للنظرية بعنوان «عن وحدة العقل: دعوى ضد الرشديين».