حلالُ محرم
الأربعاء 10/مارس/2021 - 06:49 م
"أكيد كلهم مستيين يشوفونا جنب بعض عشان يضحكوا.. ملعون ابوهم.. برضو هنفرح ".. كلمات قالها محمود أبو العلا، لنفسه وهو ينظر فى مرآة غرفته، بعد ان ارتدى البدلة و البيبيون الأسود اللميع الذى أعطاه له أحد جيرانه العاملين فى مجال الفنادق كهدية فرحه، حاول أن يتجاهل تلك الكلمات والعاصفة الفكرية التي كادت أن تفجر رأسه، بشرود ذهن تناول ساعته وزين بها معصم يديه وهو يقنع نفسه أن "ملعون أبو الناس" وأن عليه أن يشعر بالفرحة وبالسعادة بعد أن حقق أمنيته بالزواج ممن يحب، لكن المشكلة لا زالت باقية، باقية كبقاء حبه لها ومقاومته من أجلها، باقية كبقاء حبها له ومقاومتها من أجله.
ذهب محمود لعمه وطلب منه أن يأتي معه لخطبة من اراد، رحب عمه كثيرا حتى عرف من هي، صرخ فى وجهه وقال (عاوز تتجوز دي.. عاوز تتجوز صاحبة امك؟.. دي اكبر منك يجي بعشرين سنة)، ورغم إنها تكبره بخمسة عشر عاما فقط، ورغم تدين عمه واعتبار رسول الاسلام مثله الأعلى، إلا أنه رفض ما فعله النبى منذ أكثر من ألف عام بحجة التقاليد، هل تتضح الرؤية بمرور السنوات أم إنها تزداد ضبابية؟، غادر ابن أبو العلا منزل عمه محملا بعدة أسئلة كلها تبدء، لماذا هي؟، هل هى بكر رشيد؟، ولو بكر رشيد لماذا لم تتزوج حتى الآن بالتأكيد معيوبة"، وعندما حاول أن يفرغ عصاره أفكاره مع أحد أصدقاءه زاده هما وكمدا وأسئلة، "هتتجوزها كبيرة عنك ليه حيلتها أطيان أو ورث؟" ثم اختتم كلامه معه بجملة "الحريم بتكبر بدري وبينقطع عنهم العادة الشهرية.. خدها صغيرة عشان تخلفلك عيلين ينفعوك لما تكبر"، هز رأسه محمود فى اقتناع مصطنع وترك صديقه يكمل باقى حجر المعسل القص وغادر المقهى.
بدأت الحكاية بعد وفاة والد محمود، الأستاذ أبو العلا الموظف فى مصلحة صك المشغولات الذهبية بالجيزة، لم يبقى له ولامه سوى الديون، ذلك الحظ العثر والكوميديا السوداء التى تجعلك تعيش عمرك كله تصك المشغولات الذهبية الثمينة وأنت مرتبك لا يتعدى الألف ومئتان جنيه، تورد فاتورة بقيمة مليون جنيه فى اليوم الواحد وتذهب بعدها للبقال تترجاه يعيطيك بالشكك لأول الشهر، عانى محمود كثيرًا من مهنة والده، فقد كان يعامل على أن والده من أصحاب الذهب وأنهم يكتنزون المال ويبخلون به، وهو فى الحقيقة عاش حياة بالكاد تكون مستورة وبعد وفاته ترك معاشا 600 جنيه ودين البقال وباقي أقساط مروحة السقف التى أنقذتهم من حر وناموس الصيف فى تلك الشقة القريبة من منطقة الصرف الصحى، هنا لم يجد محمود صاحب العشرين عامًا مفرًا إلا العمل خلال دراسته ليدبر مصاريف المنزل على أن يتكفل معاش والده بسد الديون.
وكأنها مآساة إغريقية، ينتهى البطل من معاناة يدخل فى أخرى مباشرة مسلوب من حق الاختيار، بعد أن استطاع محمود أن يسدد معظم ديون والده على مدار عام كامل من العمل ( كاشير) فى إحدى مطاعم الفول والطعمية الشهيرة، وأثناء أحلامه بالإنتهاء من دراسة الفنون الجميلة وشق طريقة كمهندس ديكور، أصيبت أمه بتليف فى الكبد، غسيل الكبد مرتين أسبوعيا أمر مكلف، كان لازما عليه أن يكمل فى عمله لسد مصاريف المنزل ويسد خانة العلاج بمعاش والده، كأن ذلك المعاش القليل اللعين لا يصرف إلا لسد الديون أو روشتات العلاج.
بعد أن انهك والدته المرض واخذت المطاعم الجاهزة نص ميزانية الشهر، حاول تعلم الطهى لينقذ معدته التى يكاد أن يسمعها جيرانه كل ليلة، حاول لكن كل مرة كان يفشل ويضحك مع والدته، يضحكان وفى وسط ضحكاتهما تبكي أمه، تبكى على ما اسمته ( قلة بخت إبنها)، رغم اقتناعه بكلامها واعتصار قلبه كان يخفى ذلك وراء كلمات الصبر والقوة والعوض الذي سيأتى فى وقته، هل تعوضنا الدنيا عن أوقاتنا الصعبة حقا أم إنها مجرد حيلة دفاعية بدعها العقل البشرى حتى لا يقع صاحبه فى فخ الاحباط والاكتئاب؟.
توصلت والدته لحل يبدو مريحا، عن طريق الفيسبوك الذى أصبح أنيسا لها فى مرضها، تشاهد بعض الفيديوهات والتعليقات الكوميدية التى تنسيها بعض آلامها، اتفقت مع إحدى الصفحات التى تعرض خدمة تحضير وتوصيل الأكل البيتى بأسعار مناسبة جدا، شرحت لهم فى رسالة خاصة ظروفها واقترحت عليها الصفحة أن توصل لها أكل يكفى أسبوعا كاملا وبذلك توفر نفقات التوصيل اليومى، أخيرا سيرحم محمود من البطاطس المحروقة و المكرونة .
طلبت "أم محمود" أن يصل الأوردر كل يوم جمعة، راحة محمود من الدراسة والعمل، حتى يستطيع أن يأكل طعامًا شهيًا يساعده على استكمال الساقية التى رٌبط فيها، بالفعل رن جرس الباب بعد صلاة الجمعة معلنا عن وصول الطعام، بعد أن فتح "محمود" باب الشقة وجد أمامه سيدة ثلاثينية متوسطة الطول والجمال ترتدى بنطلون جينيس عليه بلوزة تنتهى قبل ركبتيها بقليل، سألت على "أم محمود" فأخبرها إنها بالداخل وطلب منها الدخول لكنها شعرت بالقلق، قد يكون فخا وهذا الشخص صنع حساب وهمى وطلب الأوردر لاستدراج أى فتاة لمنزله، طلبت منه رقم والدته للاتصال بها والاطمئنان أنها فعلا بالداخل وهو ما استقبله "محمود" كأنها إهانة له وقرر إلغاء الأوردر، لكنه تذكر عصافير بطنه التى تترجاه طوال الأيام الماضية بإن يحن عليها بطعام شهي، فقال لنفسه "مفيهاش حاجة يعنى لما تتأكد حقها.. ولاد الحرام كتير" .
تكررت الزيارات وبدء "محمود" يطلب الأصناف والأنواع التى يشتهيها ونجح فى أن يخرس عصافير بطنه، لم يكن يعرف حتى اسم تلك السيدة ولكن يهتم، مجرد سيدة تطهى طعاما شهيا وتنازلت عن نفقات التوصيل بعد رؤيتها لظروف والدته واقترابهن من بعضهن أكثر حتى إنها أصبحت تأتى لها يومين فى الأسبوع، يوم لتوصيل الطعام ويوم آخر تأخذ بحسها وتهون عليها، وفى مرة من المرات استمع محمود لمناقشة بينها وبين والدته حول رفضها لعريس تقدم لها، يصعب تحديد عمرها من شكلها لكنه على اية حال لم يهتم.
في إحدى أيام الجمعة وبعد أن آخذ محمود الأكياس الخاصة بالطعام وجد شيئا بعيدًا عن اهتمام صانعة وموصلة طعام، أو هكذا ظن.
"بتقرى لاحسان عبد القدوس؟"، باغتها محمود بهذا السؤال قبل مغادرتها مباشرة بعد أن وجد فى أكياس الأكل رواية (أنا حرة) ، ولانها لاحظت أكثر من مرة معاملته الجافة كان ردها بنفس أسلوبه" يعني هو كان بيكتبلك أنت بس؟"، تلجلج محمود وأبدى أسفة على أى سخافات صدرت منه وأكد لها أنه كاتبه المفضل خصوصا تلك الرواية، لترد بإبتسامة تؤكد قبولها الأسف وتغيير استراتيجيتها الدفاعية وتخبره إنها بالفعل تقرأ كتابات "احسان" لكنها تفضل أدب نجيب محفوظ أكثر، ثم تخبره إنها بالفعل تعيد قراءة رواية (أنا حرة) هذه الأيام لإنها موضع مناقشة إحدى رسائل الماجستير الخاصة بزميلة لها فى كلية الأداب قسم الفلسفة، وإنها تستعد خلال فترة قريبة لمناقشة الرسالة الخاصة بها والتى اختارت أن تكون فى دراسة الجانب الفلسفى فى أدب نجيب محفوظ، مناقشة لدقائق كانت كفيلة أن تدهش محمود لأيام متتالية، تلك القارئة الفيسوفة صانعة الطعام الشهى التى لا يعرف حتى اسمها.
أصبح ينتظر الطعام لا ليسكت عصافير معدته، لكن ليشبع شهوة الفضول لدية، الفضول فى معرفة تلك السيدة الغامضة التى تدرس الفلسفة وتعمل فى الطهى، وبالفعل تكررت الزيارات وتكررت المناقشات لتصبح جلستها مع والدته ساعة ومناقشتها معه ساعة أخرى.
سألها عن اسمها فى ثانى حديث بينهم، منيرة، مواليد 1988، أي انها أكملت عامها الـ 31، درست الفلسفة وعشقت المطبخ ورفضت الكثير من الزيجات القائمة على تبادل المنفعة فقط، رجل يراها مناسبة، تعمل وتحصل على أموال لا بأس بها، وأن كانت متوسطة الجمال لكنها تملك مقومات جسدية تنال اعجاب الرجال وتثير غرائزهم، وبالتالي تقدم لها الكثير من الرجال الذين يروون أن الزواج مجرد شركة قوامها الأساسى المال والجنس، بينما ترى هى الحياة الزوجية خليط بين رومانسية واقعية فى تقاسم الآلام قبل الأفراح والقدرة على تهوين ما تفعله بنا الدنيا معا، قرر من وقتها محمود أن يعتبرها صديقته المقربة.
حكى لها عن مغامرته في الجامعة، الفتاة التى أحبها كثيرا وتركته منذ شهور بسبب انشغاله عنها بعمله الجديد وعدم تقديرها لظروفه الحالية، قرأوا سويًا وناقشوا الفرق بين شعر نزار قبانى وفؤاد حداد، شعر الأبنودى وفؤاد نجم، أفلام عاطف الطيب ورأفت الميهى ومحمد خان، مع كل كيس طعام جديد كان يحكى لها وكانت تحكى له، كأن الطعام تحول من غاية فى إشباع معدته لوسيلة لرؤيته صانعته.
وعودة للمآساة الاغريقية، بعد عام من تعلق محمود بها وتخرجه من الجامعة وبداية إيمانه بالَعوض الدُنيوى وتفاؤله بتحقيق احلامه، توفت والدته واصبح تردد منيرة على منزلهم غير منطقى، حتى بعد أن صارحها بمشاعره ورفضها للفكرة وقطع كل ما كان يربطها به، ظل يفكر فى الفيلسوفة صانعة الطعام، تلك المنيرة التى أنارت قلبه وعقله بعد أن ساد فيهم ظلام الدنيا، هل تأتى كلمة ظلام من ظلم؟، هل يحل الظلام داخل النفس البشرية بمجرد تعرضها للظلم؟ أم هى مجرد ترتيب حروف لا اكثر؟ .
حاول محمود اقناع نفسه بإختفاء منيرة من حياته وحاول التعايش، قال لنفس عشرات الحجج ونفاها لنفسه فى نفس الوقت، بالتأكيد تعلق بها بعد خروجه من قصة حب فاشلة، ولماذا هى تحديدا رغم موجود عشرات الفتيات معه فى العمل والكلية، أذن تعلق بها لانها احتوته وعوضته عن أمه، لكنه كان قريبا جدًا لوالدته حتى وفاتها وكانت صديقته وأمه، احتمال غموضها يكون السبب، لكن ذلك الغموض انكشف بعد عدة مناقشات وأصبحت كتابا مفتوحا، هل هو من نوع الرجال الحقير الذى يبحث عن سيدة طمعا فى ما لديها؟، حتى لو هو من هذا النوع ماذا تملك منيرة ليطمع فيه؟، كلها اسئلة طرحها محمود على نفسه فى فترة انقطاع الود بينهما ومن بعدها اتخذ قراره.
قرر "محمود" أن يواجهها، يواجهها بالاسئلة التى عصفت بذهنه وبالتأكيد زار عقلها نفس الاسئلة، وأن يجدان إجابات لها معا، لتفاجئه وسط حوارهما بقولها "عاوزهم يقولوا من همه خد واحدة قد امه؟ وأنى ضحكت عليك بعد أمك ما ماتت؟" صدمته صراحتها لكنها ع الأقل على الأقل أوضحت أن موقفها نابع من خوفها بسبب كلام الناس، ألف لعنة لاتكفى كلام الناس، اسهم تخرج من أفواههم لتصيب قلوب آخرين ذنبهم الحقيقى هو رغبتهم فى العيش بسلام، هذه تتأخر كثيرا، وهذا وضع صبغة شعر ولم يحترم عجزه، لماذا تأخر الحمل؟ بالتأكيد إنها عاقرًا أو انه عاجز جنسيا، كلام يقال فى أوقات السمر للتسلية والضحك لكنه يخترق اجساد ضحاياه دون اى شفقة أو رحمة.
ظل حال انقطاع الوصل كما هو، يعيش "محمود" ايامه بين عمله نهارا ومقهى العزيزية ليلا مع اصدقائه، عاد مرة اخرى لطعام الشوارع عديم الطعم، او هكذا كان يشعر عندما يتذوق لسانه طعاما غير طعام منيرة، حاول نسيانها بغيرها وفشل، لكن هي وافقت على خطوبة من العشرات التي رفضتهم حتى تقنع نفسها انها لم تتعلق بشاب يصغرها بعشر سنوات وبدأت في الالحاح على عريسها للاسراع في تجهيزات الزواج.
علم محمود عن طريق صورة على الفيس بوك بأمر خٌطبتها، رجل في نفس عمرها يعمل معلما للغة الانجليزية في احدى دول الخليج ويبدو انه عاد لمصر ليختار عروسة ووقع الاختيار عليها، كلها معلومات استنتجها محمود من حسابه على الفيسبوك.
عاش محمود شهرا يحاول التأقلم ، بدء يتكون لديه قناعة ان كل بنات حواء ماديات، السطحية منهن والفيلسوفة، بالطبع مدرس انجليزي في الخليج افضل من كاشير في محل فول وطعمية، حتى اخبرته منيرة في اتصال مفاجيء منها انها لم تستطع استكمال الخطبة وقررت فسخها وعدم معاندة قلبها وروحها التي اصبح يمتلكهما محمود الان، ثم قالت له في اخر المكالمة وهي تضحك ( غالبا انا طلعت فقرية وبحب الفول والطعمية اكتر من الكبسة ام لحمة).
ذهب بعدها لملاقاة والدها، وجده رجلا مؤمنا بمبدأ الاختيار الحر، درس الفلسفة وعلمها لابنته، كان مصدر قوة لها في رفض اي شخص او اي شيء لا يتوافق مع معايير اختيارها، سهل ذلك المهمة كثيرا، وبعد اتفاقهما المبدأي وقفت في طريقة عقبة حضور احدا من اعمامه لخطبة منيرة بشكل رسمي.
لا يملك محمود سوى عم واحد، يحب ابن اخيه ولا يتمنى سوى ان يراه سعيدا وان تعوضه الدنيا عن قسوتها السنوات الماضية، وكان ذلك كفيلا من وجهة نظرة لرفض تلك الزيجة واتهامه محمود بالجنون، ولان محمود بالفعل مجنون ذهب وتقدم رسمي لوالد منيرة بمفردة، ورغم تردد والدها الا انه احترم شجاعة محمود ورغبة ابنته وقرر اتمام الزيجة، وفور اعلان الخطبة بشكل رسمي اصبحوا الحكاية المسلية والقصة التي ينتظر فصولها الاقارب والجيران وزملاء العمل، وكل منهم يضيف لها ما يحلو له من خياله ويحكيه لغيره باعتباره واقعا.
رغم معرفة محمود ومنيرة بما يدور خلف ظهورهما الا انهما ظلا متمسكان وحددوا ميعاد الزفاف واخبروا هؤلاء النمامين بآخر فصول القصّة، مازالت الافكار والاسئلة تجول في رأس محمود، ومازلت منيرة تخشى كثيرا نظرة (عواجيز الفرح)، لكنهم تمسكوا وتماسكوا حتى خرج هو ببدلته وخرجت هي بفستانها وانتهوا من مراسم كتب الكتاب وتعانقوا طويلا كأن اجسادهما ذابت في بعض كأن سمكة عادت لبحرها مرة أخرى، ليقطع عناقهما جملة قالتها عمته الفضولية ( شدوا حيلكم بقى والحقوا هاتولنا عيل ).