أوراق نوال السعداوى.. وحياتها الخاصة
الإثنين 22/مارس/2021 - 03:58 م
البعض يبحث عن الحرية.. البعض الآخر يصنعها!
الدكتورة نوال السعداوى ببساطة، من النوع الذى أحدث ثقبـًا فى منطاد الجمود.. بأفكارها التى تطلق الرصاص على المنطق الذكورى وثقافة القطيع، نالت هذه الكاتبة مليون وردة ومليار شوكة.. اقتحمت المحظورات وكسرت قارورة الجنس والسياسة والدين، وأعلنت استقلالها كامرأة وإنسان وعقل، قبل أن ترفع عَلَمها الخاص فوق أرضها وتطير عكسَ الريح! .. كتاباتها تفك عن الجرح قطبة إضافية، حتى وإن كلفها ذلك المزيد من الهجوم والدعاوى القضائية والعيش في المنافي الاختيارية.
سيدة الحقائق، أم مشعلة الحرائق؟
لا يهم، ما دامت الكتابة تتدفق والأفكار تهز سكون صحرائنا الشاسعة.. ود. نوال السعداوى (1931- 2021) في أجزاء السّيرة الذّاتية الثّلاثة "أوراقى.. حياتى" (صدر الجزء الأول عن دار الهلال، القاهرة، 1995؛ ثم أصدرت الأجزاء الثلاثة: مكتبة مدبولى، الطبعة الثانية، القاهرة، 2006) تحاول تفجير الوعى النسوى بشكل روائى سردى ينطلق من ذات المرأة نفسها، معتمدة الكتابة وسيلة للتغيير .
وهي تتبنى أسلوب الصراحة الصادمة، فهي محاطة منذ طفولتها بأحاديث وحكايات وإرث زاخر بالجنس والعلاقة بين المرأة والرجل.
"جسمي يشعر بالتعب فأغمض عينَي وأتمدد فوق الأرض وأنام، أفتح عينَي، أرى النجوم وصوت ستي الحاجة لا يزال يحكي عن ليلة الدخلة، الدم كان ينزف من بين فخذيها، فضت الداية بكارتها بإصبعها المدبب، حملتها الحمارة من بيت أبيها إلى بيت زوجها، أغرق الدم بردعة الحمارة وهي تسير من خلفها الطبول. في بيت العريس رقدت فوق الحصير تنكمش داخل جلبابها الجديد المزركش ببقع الدم. جاء العريس ناداها بصوتٍ غليظ؛ قومي يا بت حضري العشا. تأخرت في النهوض، فانهالت عليها العصا الخيزران التي يقود بها حمارته" (ج 1: ص21).
الدم هنا ألم وأنوثة.. عذاب واستسلام.. "تلك الليلة كانت ستي الحاجة في العاشرة من العمر، لم يدركها الحيض بعد، وقد جثمت فوقها وهي تدس الطرحة في فمها تكتم الصراخ. لم يكن للعروس أن تصرخ وإلا لسعتها الخيزرانة، أو ألسنة الجيران، فلا يعود لها أو لأبيها وجهٌ في القرية" (ج 1: ص 22).
في محيط العائلة كانت الأمنية المستحيلة أن تصبح الفتاة ولدًا.. و"ترفع عمتي رقية كفيها نحو السماء تدعو الله أن يقلبني ولدًا. أسمعها تقول: ربنا قادر على كل شيء.. وترد عليها ستي الحاجة: من بقك لباب السما يا بنتي".
"كنت أتطلع نحو السماء بعينين أن يكون باب السماء مفتوحـًا وأن الدعوة سوف تنطلق من فم عمتي مباشرة إلى أذن الله، وأني سأصحو في الصباح لأجد الشق (أو الفرج) بين فخذي مسدودًا وقد نبت مكانه العضو الذي عند أخي.
"في الصباح أدخل الحمام أختلس النظر إلى جسدي. لا أستطيع النظر بين ساقَي، أخشى أن تتسع المسافة بينهما أكثر من اللازم، لا أقوى على النظر إلى تلك المنطقة المحوطة بالخزي والخوف والخشية من قدرة الله"(ج 1: ص 33-34).
وما بين الخالتين نعمات "المطلقة" وفهيمة "العانس".. يطل شبح الرجل الغائب أو الذي لا يأتي ليفرض نفسه على عالم وذكريات د.نوال السعداوي التي تقول: "لم أكن أعرف معنى كلمة مطلقة أو عانس. حين أسأل أمي تمط شفتيها وتقول: الاثنين أسخم من بعض!" (ج 1: ص 29).
وفي سن الصبا تزداد المسافة اتساعـًا بين عالمي المرأة والرجل
"كنت أشد الحمالات من فوق كتفي، أكشف صدري وبطني للهواء والشمس. ترتفع يد خالتي نعمات في الهواء وتضربني، وصوتها يخرق أذني: عيب! وأصرخ: اشمعنى طلعت! يعود إليّ صوتها مثل نعيق البوم: هو ولد وأنتي بنت!.. "كانت هذه العبارة تخرق أذني منذ ولدت، تدخل فمي في مياه البحر المالح.. "هو ولد وأنتي بنت" (ج 1: ص 49)
ثم تضيف قائلة: "أخي يكشف صدره للهواء والشمس وأنا أخفي صدري.. صدري عورة تستوجب الإخفاء. كلمة "عورة" تخرق أذني مثل المسمار" (ج 1: ص 49-50).
وتحت عنوان "حادث ختان" تتحدث د.نوال عن الداية أم محمد، وتجربتها المأساوية مع الخفاض أو الختان. تقول: "منذ طفولتي لم يلتئم الجرح العميق في جسدي.
"الجرح الأعمق في النّفس، الرّوح. لا أنسى ذلك اليوم صيف عام 1937، مرّ سبعة وخمسون عامـًا في ذاكرتي كأنّما الأمس. راقدة من تحتي بركة الدّم، توقّف النّزيف بعد أيّام، نظرت الدّاية بين فخذَي وقالت: الجرح خلاص خفّ والحمد للّه.. الألم ظلّ كالدّمل غائرًا في اللّحم، لم أنظر بنفسي لأعرف مكان الألم. لا أستطيع النّظر إلى جسدي العاري في المرآة أو هذه المنطقة المحرّمة المحفوفة بالإثم والعار" (ج 1: ص 56).
وتظهر النزعة النسويّة وأيديولوجيّة المرأة أيضـًا في حديث الكاتبة عن الحمل السفّاح عندما تعرّضت لما حدث للخادمة شلبيّة.. وفي حديثها عن الحيض عندما أشارت إلى التّجربة التي مرّت بها وموقف محيطها العائلي منها.
فحين تنطلق الأنوثة من محبسها تبرز أسئلة جديدة؛ إذ تقول: "في التاسعة من عمري رأيت النزيف الأحمر، يسمونه في العربية الفصحى "الحيض" أو "المحيض"، جاء ذكره في القرآن "ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض حتى يطهرن". فاجأني الأذى ذلك اليوم. فتحت عيني في الصباح فوجدت سروالي غارقـًا في الدم. هل تسللت الداية في الليل وقطعت شيئـًا آخر من بين فخذي؟ عفريت من الجن أو شيطان من الشياطين، دخل من تحت عقب الباب ومزق غشاء العفة؟ خلقة الله في أجسام البنات هذا الغشاء يفرق البنت العذراء عن المرأة المتزوجة. الدليل الوحيد على حسن الأخلاق" (ج 1: ص 56).
ثم تعود لتتحدث عن هذا القلق الذي يسكن عقلها ووعيها فتقول: "قطرة حمراء فوق ملاءة السرير البيضاء. من أين يأتي الدم في الطفولة؟ ولماذا يتكرر دون انقطاع؟ منذ التاسعة من عمري رأيت الدم في الفراش. تعودت رؤيته الشهر وراء الشهر، السنة وراء السنة حتى أدبرت طفولتي. لم تعد البقعة الحمراء فوق الملاءة تفزعني. أصبح غيابها هو المفزع. أفتح عيني كل صباح وأبحث عن البقعة الحمراء فوق الملاءة، في ملابسي، في ثنايا النسيج الأبيض أبحث عن قطرة واحدة حمراء" ( ج 3: ص 17).
"الحُبُّ الأول هو أول الأسرار في حياتي، لم يعرفه أحد من الإنس أو الجن" (ج 1: ص 118). غير أن نوال كانت على وشك أن تتزوج ابن عمها الحاج عفيفي، لولا شراسة الفتاة التي جعلت العريس يتبخر في الجو ويذوب مع سحب الصيف الرقيقة. وحين أتى العريس الجديد "عبدالمقصود أفندي" بدأت معاناة من نوع جديد. "لم تشترك طنط نعمات ذلك اليوم في ضرب السجادة، كان لها دور آخر مع عمتي رقية. قبضت عليّ الاثنتان داخل الحمام.
واحدة أمسكت يدي الاثنتين الثانية فرشت "الحلاوة" فوق ذراعي كما تفرش لفحة الأنتوفلوجستين، ثم راحت تنزع الشعر عن الجلد.. صراخي كان يرتفع من وراء باب الحمام أرفسهما بقدمي وركبتي. جاءت ستي الحاجة وربتت على كتفي: كله لمصلحتك يا عين أمك" (ج 1: ص 140).
في بيت جدها طاهر تقترب مُكرهة من حافة الرغبة. تقول: "طنط دولت تضع ساقـًا فوق ساق. تسألني من طرف أنفها عن اسمي واسم مدرستي. خالي ممدوح يفتح حقيبتي دون إذن، ينظر فيها ويقول بصوت كالفحيح: "البنات دائمـًا يخبوا حاجات حلوة في شنطهم". أشد منه الحقيبة. أخشى أن يأخذ منها مفكرتي السرية. يشدها مني ويجري إلى غرفته. أجري وراءه أشدها منه. في غرفته يحاول أن يُقبلني، أدفعه بعيدًا بذراعَي القويتين. عظامي القوية تنقذني منه" (ج 1: ص 178).
تتكرر المواجهة مع الرغبة في ظروف ومواقف مختلفة.. والنساء لا يهملن تفصيلة واحدة يتمكنَّ من تذكرها؛ لأن كل التفاصيل لها علاقة بإحساسهن بطبيعة "ما حدث".. ما بين قرصات مجهولة في الفخذ وسط الزحام، ودس أحدهم إصبعه الصلب في ظهرها "أو ذلك الشيء الآخر الذي يتصلب بين فخذيه يدسه في جنبي أو في الإلية وأنا واقفة مصلوبة بين الأجساد، يداي مرفوعتان قابضتان على عمود علوي في سقف الترام أو القطار أو الأتوبيس" (ج 1: ص 210).
الفتاة التي تتذكر العلاقة الحميمة بين أبويها -وكان والدها الشيخ سيد السعداوي من علماء كلية دار العلوم - لا تنسى التفاصيل التى تنساب مثل جدول عذب.
"في الفرندة كنت أراهما (أبي وأمي) جالسين معا يرشفان عصير البرتقال أو الليمون ويسكران .. تنطلق ضحكتيهما في أنحاء البيت إلى حد القهقهة العالية، قد يلعبان معـًا الكوتشينة أو الطاولة أو الشطرنج. تنهزم أمي دائمـًا وتنتفخ أوداج أبي مثل الديك الرومي أو الطاووس، يمد ساقيه ويسترجع ذكريات البطولة، ثورة 19 أول هذه الذكريات، ثم نجاحه بامتياز في كلية دار العلوم، وأخيرًا انتصاره في الزواج من أمي رغم عراقيل أبيها شكري بيه، تضحك أمي وتلقي بشعرها الذهبي الناعم خلف عنقها الرخامي "فاكر يا سيد لما المرحوم بابا قالك نجوزك فهيمة بدل زينب.. قلت له يا زينب يا بلاش".. تضحك أمى وتكركر ضحكتها المتقطعة كالماء المقطر داخل قُلة من الفخار الرقيق" (ج 1: ص 282-283).
إلى أن تقول نوال: "هنا يبلغ العشق ذروته فينهض أبي ومعه أمي يختفيان داخل غرفة نومهما.. من وراء الباب المغلق أسمع الهمسات مع طقطقات السرير النحاسى مع القهقهات والشهقات والزفرات كالنشيج والضحك فى آن واحد" (ج 1: ص 283).
تجارب نوال مع أزواجها الثلاثة -أحمد حلمي وشريف حتاتة وبينهما زوجٌ خلعت نفسها وأجهضت طفلها منه - داست عليها كأنها كاسحة ألغام.
إنها تلقي بجُمل وعبارات من عينة "كنت قد تزوجت للمرة الأولى تحت اسم الحُبِّ الكبير. قصة طويلة بدأت وأنا في العشرين من العمر فتاة عذراء، وانتهت وأنا في السادسة والعشرين زوجة عذراء تحولت إلى أم عذراء ثم تحررت بالطلاق".
وفي موضع آخر تقول: "ثم دخلت كلية الطب. أصبحت أفصل بين الحلم والواقع، بين الوهم والحقيقة، وقعت في حُبٍّ حقيقي وتزوجت زواجـًا حقيقيـًا على سنة الله والرسول، وحملت وولدت وأصبحت أمـًا حقيقية غير عذراء وغير طاهرة، كان هناك شيء غير طاهر يحدث لي في الليل، شيء لا يبعث على اللذة بل الألم والإثم، كان زوجي الأول رجلًا مكتمل الرجولة" (ج 3: ص 21).
كانت نوال تشعر بلذة الحرمان من الأكل أو الجنس في قمة لحظات الحُبِّ.. حتى الحُبّ الذي جمعها بزوجها أحمد الذي تعرفت عليه في كلية الطب.
الزوج الأول عند نوال كان هو الحُبّ الثاني واستمرت قصة حبهما ست سنوات هي عمر زواجهما الذي أدركوا بعد انتهائه بالطلاق في خريف عام 1957 "أن الزواج يفسد الحوار بين الرجل والمرأة، يفسد الصداقة والحُبَّ، يدمر الأشياء يسحقها مثل وابور الطحين، يعيدها إلى ما كانت عليه في العصور القديمة زمن العبودية" (ج 1: ص 308).
وما بين الزوجين الأول والثاني، مسافة زمنية عاشتها الكاتبة تنظر إلى الرجال نظرة معينة
"كنتُ في الثلاثين من عمري فى أوج الشباب. طبيبة وأديبة معروفة. ممشوقة الجسم فارعة القامة. الرجال من حولي كثيرون كالذباب. ينجذبون إلى المرأة الحُرة بلا رجل. خيالهم عاجزٌ عن رؤية المرأة. هي في نظرهم واحدة من اثنتين: 1) زوجة مملوكة لرجل واحد، 2) امرأة حُرة مملوكة لجميع الرجال.
"الخيال العاجز منذ التحول في التاريخ، يتنافسون من حولي على نحوٍ عجيب، يفكرون في أسرع الطرق للوصول إلى غرفة النوم.
"كان عقلي أمامهم كالباب الموصد، يسدُ عليهم الطريق، يحول بينهم وبين جسدي. كلمة عشيقة ترنُ في أذني مهينة. كلمة زوجة لا تقل مهانةً. لم يكن لرجلٍ أن يتملكني وإن كان رئيس الدولة. لا أمسح اسمي لأحمل اسمه وإن كان هو الإله المعبود" (ج 2: ص 195).
في بعض الأحيان تختلط الصور وتتشابه الأسماء في ذهن الكاتبة
"ذاكرتي مثل جبل الثلج تحت الماء، لا أكاد أعرف الزوج الأول من الثاني، كلاهما كان يحِبُّ فخذ الدجاجة المحمرة" (ج 3: ص 53).. لكنها تعود فترسم خطـًا وحدودًا فاصلة بين زوجيها الأول والثاني.
تقول: "حملتُ في الزواج الأول وأنجبت طفلة جميلة كانت ابنة الحُبِّ وليس الزواج لم أكن أؤمن إلا بالحُبِّ.. تصورت أن الزواج بدون حب ينتج عنه أطفال مشوهون.. أتحسس بطني وأنا جالسة وراء المكتب.. في أحشائي حمل غير مقدس.. جنين مصنوع من الكذب.. نطقت كلمة أحِبُّك لرجل لا أحِبُّه.. يقاسمني الفراش تحت اسم الزواج.. بشرته بيضاء، وجهه سمين ممتلئ مثل أمه وأنا أحِبُّ الوجوه النحيفة الرشيقة.. قامته قصيرة، جسمه مربع مكتنز باللحم وأنا أحِبُّ القامة الطويلة الممشوقة. يداه صغيرتان بيضاوتان ناعمتان خجولتان أصابعهما قصيرة مضمومة، وأنا أحِبُّ اليد الكبيرة الشجاعة المفتوحة" ( ج 3: ص 62).
وهي تسوق أسبابها للخلاف مع زوجها الثاني الذي كان رجل قانون.. "كان هو يشاركني السرير لا شيء يفسد الحياة الزوجية إلا السرير المشترك والحمام المشترك انتهاكات يومية للحياة الخاصة" (ج 3: ص 77).
وتكرر الكاتبة انتقاد مواصفاته الجسدية بطريقة لافتة للنظر.. لتقع عينا القارئ على جمل وعبارات من عينة "قامته مربعة قصيرة. قدماه صغيرتان بيضاويتان. يرتدي منامة حريرية بيضاء. وجهه أبيض بلون المنامة عيناه صغيرتان غائرتان فى اللحم كعينَى أمه.
"كنت واقفة أمامه قامتي أطول من قامته. قدماي كبيرتان أكبر من قدميه. سمراوتان محروقتان بالشمس. وهو واقف أمامي يمط عنقه شامخـًا بأنفه" (ج 3: ص 82).. و"كان واقفـًا أمامي يمط عنقه القصير الممتلئ باللحم" (ج 3: ص 83)
إنها تطرح على نفسها السؤال الأصعب وربما الأكثر غرابة: "متى تزوجت هذا الرجل؟!" (ج 3: ص 8).
وكم تقاطعت غريزة الجسد مع لذة التفكير! .
"قال لي زوجي الثاني ذات يوم: أنتِ تكرهين الجنس! أنتِ تكرهين الرجال!، قلت له: غير صحيح أنا مثل البشر بكل غرائزهم، ولكني أحِبُّ الكتابة أكثر من الجنس والرجال، اندهش الزوج الذي لم يعرف لذة الكتابة وقال: يعني إيه تحبي أكوام الورق ده أكتر من زوجك؟
"تصور الرجل أن العيب فيه أو في فحولته، لكني شرحت له الأمر دون جدوى، لم يكن خياله قادرًا على إدراك حقيقة: أن المرأة لها عقل يفكر، وأن التفكير وحده لا يكفي ليكون الإنسان إنسانـًا، بل لابدّ من التعبير، لابدّ من توصيل الأفكار للناس، وأضفت قائلة: إن ديكارت قال نصف الحقيقة فقط، لا يكفي أن تفكر لتعيش؛ وانفجر الزوج غاضبـًا ولعن أبو ديكارت وأبو الشخص المجنون الذي أباح التعليم للنساء! .
"بعد الطلاق أقسم الرجل ألا يقترب من امرأة تقرأ، فما بال أن تقرأ وتكتب، ثم زوّجته أمه لفتاة من العائلة لا تفك الخط".
في لحظة المواجهة والصدام، تقول نوال السعداوي في مذكراتها إنها هددت زوجها الثاني بمشرط الجراحة.. "تجمدت أمام المرآة وأنا أنظر إلى وجهي. ثم أكمل جسمي الاستدارة وأصبحتُ أواجهه وجهـًا لوجه، وعينـًا لعين.. ماذا رأى في عيني؟! رأيته يتراجع إلى الوراء دون أن يستدير حتى التصق ظهره بالحائط. أصبح جزءًا من الحائط بغير حراك. وجهه بلون الحائط الأبيض. شفتاه بيضاوتان منفرجتان دون أن ينطق. تصورت أنه مات وهو واقف قبل أن أقترب منه.
"لم أعد في حاجة إلى المشرط. نطقت عبارة واحدة من كلمتين بصوت أبي الميت: أنا خلعتك" (ج 3: ص 84-85)
ماذا عن زوجها الثالث د.شريف حتاتة؟.. تبدو د.نوال أكثر رضى عن هذه الزيجة من غيرها بالرغم من إشارتها إلى أنها كادت تقع في حُبِّ ثائر من تشيلي يُدعى روبرت عرفته على شاطئ بحيرة فيكتوريا ومنابع النيل.. ومسؤول سابق في الأمم المتحدة التقته على متن طائرة.. لولا ما تصفه بـ"الوفاء الكلابى" بين الزوجين.
"أرمقه بشيء من الحسد. منذ تزوجنا عام 1964 وهو ينام بسهولة. يضع رأسه فوق الوسادة وينام في نصف ثانية. ضوء خافت يسقط فوق الجدار من خلال شقوق النافذة. نسمة خفيفة تحرك النتيجة المعلقة، التاريخ يشير إلى العام الجديد 2000، يبدو الرقم غريبـًا، يفتح شريف عينيه، يرمق الرقم بدهشة، يا خبر بقينا في سنة 2000 كده بسرعة؟ أطفو فوق السرير كأنما أعوم فوق الزمان والمكان" (ج 3: ص 10).
وكم تطفو فوق السطح من ذكريات.. نعيش لنرويها.. وتعيش هي لترسم ملامحنا المستعارة.
رحم الله الدكتورة نوال السعداوى