أحلام مؤجلة
الجمعة 16/أبريل/2021 - 11:08 م
وقف محمود أبو زيد، بكل زهو وفخر أمام لوحة مكتوب عليها اسمه وعنوان رسالة الماجستير الخاصة به بكلية الآداب قسم الفلسفة "قراءة تحليلية مختلفة في كتاب (هكذا تكلم زرادشت) للفيلسوف الألماني فريدريك نيتشة"، قرأ اسمه وعنوان الرسالة بصوت عالٍ كأنه يرغب في لفت أنظار المارة أمام قاعة المناقشة من الذين لا يعرفونه ويقول لهم هذا أنا، ويزيد من قيمته وحجمه العلمي أمام من يعرفه وكأنه يقول اليوم حققت واحدًا من أحلامي الكبيرة.
المناقشة ستبدأ فى تمام الثالثة عصرًا، لم يتبق سوى دقائق معدودة لذلك فضل الانتظار داخل القاعة والذى أندهش من خلوها سوى من شخص واحد يقف بعيدًا يرتدي جلبابًا بني اللون وبيده طفلة لا تتجاوز العاشرة، من هؤلاء؟ ولماذا أراهم يتحدثون ولكنني لا أميز كلامهم "حدث محمود نفسه بهذه الكلمات ووجد الإجابة بعدها بقليل".
" يا عم.. ياعم.. عاوز بخمسة جنية جبنة براميلي وكيسين فينو.. ياعم أنت أصحى عاوز أعمل سندوتشين للبت تاخدهم معاها المدرسة".
ميز محمود كلمات الرجل الواقف أمامه وأدرك أنه في غفوة نهارية داخل محل الجبن الذي يعمل فيه منذ عامين، بنصف استفاقة بدأ في تلبية طلب الزَّبون ووضع الجبن والفينو في كيس من البلاستيك وهو يكتم ضحكته من نظرات الزَّبون له، بالتأكيد يظن أنه مختل عقليًا، بعد أن خرج الرجل وطفلته من المحل ضحك محمود بصوت عالٍ، الحُلم هذه المرة كان كوميديًا، فور دخوله القاعة الافتراضية التي من المفترض أن يناقش فيها رسالته، وجدها محل الجبن الذي يعمل فيه، بالتأكيد بياته هناك يومين متتالين كان له تأثيرٌ على عقله الباطن، رائحة الجبن اللذيذة، تداخلات مع أحاديث ومقولات سقراط ونيتشه وإيريس مردوخ وبيتر ستراون، داعب محمود نفسه في أسىً قائلاً "الفلسلفة بقت بطعم الجبنة".
على الرغم من صراعات محمود المتكررة والمتراكمة عبر سنوات، فإنه خسر معظمها، درس الفلسفة بكلية الآداب جامعة عين شمس، حَلَمَ كثيرًا بالتعيين في الجامعة واستكمال دراساته العليا، لكنه خسِر معركة التعيين واستقر به الحال مدرسًا غير مختصٍ للغة الإنجليزية في إحدى المدارس الأزهرية، وعندما احتج على تعيينه في غير تخصصه قال له وكيل المدرسة :"معندناش احنا حاجة اسمها فلسفة، وبعدين احمد ربنا إنك اشتغلت".
وعملًا بنصيحة الوكيل حَمِد محمود الله كثيرًا وقرر تأجيل حُلم الدراسات العليا وتقديم حُلم الزواج من فتاة أحلامه، تلك السمراء المتوسطة الجمال التي كان يراها فاتنة الكلية دون منازع، المحبون دائمًا لهم وجهة نظر مختلفة، ما بالك بالمحب الفيلسوف، كانت تلك الكلمات إجابته دائمًا على سؤال أصدقائه "يا ابني انت بتحب فيها إيه؟"
بالفعل تأنق محمود واستغل آخر ما تبقى في راتبه الشهري الضعيف كمدرس غير متخصص لشراء ورودٍ تليق بفاتنته السمراء كما يراها دائمًا، ذهب محمود واستطاع إقناع أبيها بمستقبله الباهر الذي لم يظهر منه أي إشارات حتى الآن، وأنه قريبًا سيكون ذا شأن عظيم، الرِّهان على الغيبيات يشبه كثيرًا المقامرة، فأنت أمام خيارين لا ثالث لهما، إما كَسَبت كل شيء، وإما خَسِرت كل شيء، وأول تلك الأشياء نفسك.
لا بأس، حياة مدرس غير متخصص يعيش في شقة للإيجار مع فتاة متوسطة الجمال يحبها كثيرًا، وهي تحب حبه لها كثيرًا، حياة هادئة مملة أحيانًا لكن لا بأس بها مؤقتًا، كان محمود يردد تلك الكلمات يوميًا لنفسه بعد كل حصة ينتهي منها أو تنهي عليه، بعد أن ينتهيَ من يومه الدراسي وصخب وشقاوة الأولاد يتمشى مع خطيبته بالقرب من كورنيش النيل وهما يأكلان التُّرمس والفول السوداني ويضحكان معًا وفي عينه وعودٌ لها بأن الدنيا ستضحك قريبًا، الحُلم سيتحقق بالتأكيد.
حمِد محمود الله كثيرًا على حياته المملة الهادئة وراتبه الضعيف، لكن يبدو أن الله لم يستجب له، قرر فجأة شيخ الأزهر إنهاء عقود كل المدرسين غير المتخصصين في المدارس الأزهرية واستبدالهم بمدرسين معينين من قبل وزارة التعليم، هناك تشديد قوي على مناهج المدارس الأزهرية وطرق تدريسها للتلاميذ، يتهمون مناهج الأزهر بالترويج لبعض السلوكيات العنيفة والمتطرفة، ورغم تدريس محمود اللغة الإنجليزية البعيدة تمامًا عن مناهج الأزهر الدينية ودراسته للفلسفة وبعده عن التطرف بل ومحاربته بالفلسفة أحيانًا، كان مصيره أيضًا إنهاء عقده هو و300 مدرس غير متخصص، حتى حُلم الحياة الهادئة المستقرة المملة لم يتحقق.
هون محمود على نفسه وانتقل لحُلم الزواج من حبيبته، تذكر محمود وقتها مقولة نيتشة :"صِر من أنت"، المقولة التي اتهمه بسببها البعض بالغباء، فالطبيعي أنني أنا أيها النيتشة المتفلسف المتسفسط، لكن الحقيقة أن نيتشة كان على حق، حاول نيتشه أن يموضع كينونة الإنسان داخل منظور الصيرورة الفلسفية، بمعنى لا يكفي أن أولد لكي أصبح أنا وإنما أصبح أنا من خلال الصيرورة، أي من خلال الانخراط في التجارِب الحياتية الكبرى وخوض المعارك. وبالتالي فالهُوية تتشكل تدريجيًا وليست معطاةً مسبقًا وبشكل جاهز، كلام ونظريات كثيرة ذكر محمود نفسه بها، ثم قرر تقديم حُلم الزواج على حلم العمل والدراسات العليا.
بدأ بالفعل البحث عن عمل بديل، ما المانع أن يكون عاملًا في محل للصابون السائل وأدوات التنظيف؟ سيحصل على أموالٍ أكثرَ حتى من كونه مدرسًا غير متخصص، بدأ عمله وكله حماس لادخار الأموال والانخراط في جمعية يحصل منها على مبلغ كبير للانتهاء من تجهيز شقته الإيجار وشراء عفش فرز ثان يقضي الحاجة، وبالفعل ذهب ليبلغ فاتنته السمراء بعمله الجديد وآماله وأحلامه الجديدة التي حلت محل أحلامه المؤجلة، "عامل في مصنع صابون.
ده أنت كنت أشطر واحد في الدفعة يا محمود"، هكذا أجابته الفاتنة في عينه المتوسطة الجمال في حقيقتها، كأنها قبضت بيديها على ياقة قميصه وهزته هِزَّة عنيفة ليستفيق، وأنهت كلامها معه بجملتها "انت ميرضكش طبعًا بعد ما كنت هتجوز مدرس إنجليزي ليه مستقبل اتجوز عامل في مصنع صابون، عمومًا دور على شغل أحسن يا محمود وأنا هستناك لحد آخر عمري"، رغم دنائتها فإنها قالت جزءًا من الحقيقة المادية التي لا يدركها محمود، حقيقة المجتمع الذي ينظر للإنسان بحَسَبِ وظيفته ورصيده في البنك، تعامل محمود مع كلامها على أنه مصدر تشجيع في البحث عن عمل أفضل وأنها في انتظاره، وبالفعل حصل على وظيفة إدارية في نفس المصنع بعدها بستة شهور وذهب لمنزل أبيها لكنه لم يجدها، أصبحت الآن تعيش في مِنطقة زهراء المعادي في شقة زوجها الموظف في هيئة البريد، أجل محمود حُلم زواجه مقابل تقديم حُلم النجاح الوظيفي للانتقام من حبيبته المادية التي لا تفي بوعودها.
أحيانًا تتحول القدرة على الحُلم إلى حلم، مرحلة تحقيق الأحلام قد تتحول في حد ذاتها لحُلم، ظل محمود يؤجل أحلامًا ويقدم أحلاما ويعود لتأجيلها، هل تأجيل الحُلم يعني ضياعَه؟، هل تحقيق الحلم بعد موعده بسنوات يُفقد صاحبه لذة الوصول؟، قال الفيلسفوف "هيغل" ذات مرة :"كل ما هو عقلاني واقعي وكل ما هو واقعي عقلاني".. توقف محمود كثيرًا أمام تلك الجملة عن بقية فلسفة هيجل الخاصة، كيف للواقعي أن يكون عقلانيًا دائمًا، مثلًا مذبحة القلعة واقعية لكن هل هي عقلانية؟، الحروب واقعية، هل هي عقلانية؟، لم يدرك محمود المعنى الكامن للجملة إلا بعدها بسنين، يقصِدُ هيجل أنه لا بد أن تمر بالشر لكي تصل إلى الخير أو بمعنىً أدق إلى خير أكبر، كذلك فكر محمد علي عندما قام بالمذبحة، لأنه بعدها تفرد بالحكم، وكذلك بالتأكيد فكر قادة الحروب، فبعدها سيطر منهم على العالم لسنوات عديدة، العقل يفرض علينا الواقع بطريقة أو بأخرى، لذلك واسى محمود نفسه بأن واقعه سيكون بالتأكيد مشابهًا لما يدور في عقله يومًا ما وأن "كل ما هو واقعي عقلاني".
قطع صوت صاحب المحل حبل أفكار محمود، "أول الشهر ياعم، امسك القبض بتاعك"، رفض محمود أن يحاسبه باليومية منذ عمله في هذا المحل بعد إغلاق مصنع الصابون الذي كان يعمل فيه، أراد أن يشعر أنه موظف براتب شهْري وليس عاملًا باليومية، هذه الأموال القليلة ستحُل مؤقتًا أزمة الإيجار المتأخر والذي يبيت بسببه في المحل، صاحب البيت لا يرحم ويكيل له الدعوات والسِّباب في الطلوع والنزول، ووسْطَ معاينة صاحب المحل للبضاعة قال له "بقولك إيه، ما تبعلي الكتب اللي انت رايح جي بيها دي نلف فيها الأكل ونوفر تمن الورق اللي بنشتريه وبرضو هراضيك"، يريد لف المأكولات والجبن في أعظم كتب الفلسفة لنيتشه وغيره، العرض كاد أن يُبكيَ محمود لكنه ابتسم، ابتسم قهرًا وتذكر أنه عليه شراء لحاف جديد يواجه به برد الشتاء المنتظر بعد أن داب لحافه من كثرة الاستخدام، هنا قرر تأجيل حُلم الدراسة الذي كان استدعاه مرة أخرى مؤخرًا وقدمه على حُلم الزواج والوظيفة الجيدة وقال له :" هتدفع كام ؟ "