بدلة رقص
الأربعاء 09/يونيو/2021 - 08:51 م
هل جربت أن تعيش ظروفاً صعبة أم فقط اكتفيت بالسماع عنها ومصمصة الشفاه؟ هل وضعت قبل ذلك في اختيار إجباري ما بين العيش على حساب السمعة وبين الموت جوعاً ونهشاً من ذئاب يطلقون على أنفسهم لقب رجال ؟ سؤال اخير.. هل أنت مؤمن بأن الغاية - أحياناً - تبرر الوسيلة؟
أسئلة كثيرة يجب أن أطرحها دائماً لأي شخص في بداية حكايتي، أنا سلمى " فتاة في 2 كلية تجارة جامعة القاهرة نهاراً، و"دودي" مساعدة راقصة درجة ثالثة ليلاً، نعم هو ما دار في رأسك، أذهب مع الراقصة حاملة ملابسها ومساحيق تجميلها وفور انتهائها من وصلة الرقص ومداعبة الزبائن أضع على جسدها شبه العاري ما يستره وأنشف عرقها المختلط برائحة الخمور والسجائر، إلى هنا ينتهي دوري، لا أذهب معها في باقي مهامها .. ليس ادعاء بطولة أو شرف مني ولكنها في هذه المهام لا تحتاج لمساعدة!!
أشبه كثيراً سعاد حسني في فيلم بئر الحرمان عندما كانت تنتظر الليل لتتحول لشخصية أخرى لا تمت بصلة للفتاة النهارية الجامعية المهذبة، أقنعت إخوتي أنني أعمل لدى مصممة أزياء شهيرة ونسهر للانتهاء من تصميمات أزياء أهم سيدات المجتمع، إخوتي صغار ولكن منطقتنا الشعبية لا ترحم، كان لابد من سبب وإن كان غير مقنع حتى يقال أمام أي شخص يسأل عن سبب غيابي المستمر.
أضع يدي على قلبي كل ليلة خشية أن يراني أحد سكان المنطقة وينكشف أمري، الله يعلم أنني لا أفعل شيئاً يغضبه ولكنني في نهاية الأمر داخل كباريه درجة ثالثة محاطة بالسكاري وفتيات الليل، أمي تعلم عملي الحقيقي الذي يدر علينا مالاً بالاضافة لمعاش والدي يغنينا عن السؤال.
الطريف في قصتي أو الكوميديا السوداء كما يقولون أنني أشتري كتب الجامعة من مرتبي من الراقصة، أدفع ثمن العلم من هز وسط "رباب مراجيح "، ذهبت ذات مرة أطلب منها سلفة فوق المرتب حتى ميعاد قبض معاش والدي فرفضت، الامتحانات على الأبواب و والدتي مريضة سكر، ماذا أفعل؟ من يعطي فتاة تعمل في كباريه مالاً ابتغاء مرضاة الله؟ بالتأكيد ما سيدفعه سيحصل به على بضاعة في وقتها!
قطعت حبل أفكاري كلمات رباب وهي تقول "دودي عاوزاكي تقعدي تستلمي بدلة الرقص بتاعتي الجديدة من عند الأسطى نبيل الترزي اللي في أول محمد علي"، بالفعل انتهيت من محاضراتي في اليوم الثاني واتجهت لشارع محمد علي لاستلام بدلة الرقص الجديدة، شارع محمد علي شاهد على تاريخ الأغنية الشعبية والعوالم في مصر، معظم محلاته متخصصة لبيع الآلات الموسيقية وتفصيل ملابس الرقص وسماسرة للاتفاق على زفة أو سبوع أو خرجة إن لزم الامر بفرقة حسب الله وهي تعزف الموسيقى العسكرية المهيبة .
محل الأسطى نبيل صغير جداًّ لا يسع لأكثر من فرد واحد بالإضافة للأسطى نبيل المختفي داخل أكوام الترتر والقماش .
- مساء الخير يا عم نبيل، أنا دودي مساعدة رباب وكنت جاية استلم البدلة الجديدة
- آها اتفضلي يا بنتي، فلوسها خالصة من آخر مرة
- عاملة كام البدلة دي يا عم نبيل
- ليه هتشتري واحدة وترقصي انتي كمان؟
- لا أرقص ايه.. أنا طالبة في جامعة بس هي ظروف.. أنا بس باخد فكرة
- يعني حوالي 3 الاف جنيه، دا شغلها كلها يدوي، تطريز وتبطين ومصنعية كله 3 الاف جنيه
- ماشي، سلام
ترتدي هذه الرباب المرجيحة بدلة بثمن المراجعات النهائية وعلاج أمي مرة ونصف، هل يوجد في هذه الدنيا ذرة عدل واحدة؟ ذهبت للمنزل وأنا محبطة بعد أن رفضت رباب أن تعطيني السلفة، أرى في عيون أمي السؤال، أين العلاج وباقي المصاريف، ولكنها لم تنطقه، فهي تعلم بمدى الحمل الملقى على عاتقي .
أتت أمي بالعشاء، ترتدي جلباباً مقلماً واسعاً لا تملك سواه هو وأخر من القطيفة، فجأة تركت الطعام.. هل ما يدور في عقلي من الجنون؟ ماذا لو رفض؟ ماذا لو كشف الأمر؟ لا شىء أكثر من تركي العمل.. قلت "وماله هو أنا شغاله مع وزير الخارجية".
ذهبت للعمل يومها مثل باقي الأيام.. وثاني يوم لم أذهب للجامعة، اتجهت لشارع محمد علي، تحديداً محل الأسطى نبيل وأنا أحمل شنطة البدلة ومعها لفة من القماش
- ها.. فيه تعديلات ؟
- في الحقيقة لا.. أنا جاية عشان سبب تاني خالص
- سبب تاني؟ ايه هو؟ خير
- عندك عيال يا عمي نبيل؟
- هو انتي اشتغلتي في تعداد السكان؟ ايوة عندي ولد وبنت
- انا طالبة منك خدمة واعتبرني زي بنتك
وطلبت منه ما دار في عقلي اليوم الماضي، لم يقتنع في البداية ثم قال "والله هو دا اخرها دي درجة تالتة، انا لبست زمان نجوى فؤاد "وانتهى في ظرف ساعتين من المطلوب.
أشرقت شمس صباح يوم جديد، ذهبت للجامعة، يوم دراسي ممل كالعادة، ذهبت للمنزل.. استبدلت ملابسي واتجهت للكباريه وفي يدي شنطة تحمل بدلة الرقص الجديدة!
- دودي .. فين البدلة؟
- اتفضلي .. الشنطة اهي
وبعد دقائق تخرج رباب في بدلة الرقص الجديدة.. ولكن هذه المرة من تصميمي ومساعدة الأسطى نبيل، جلباب أمي المقلم تحول بمقص الترزي لبدلة رقص تكشف أكثر مما تستر.. ضاقت الجلابية وتم قص جزء من الأسفل وعمل فتحة في الصدر لتبرز مفاتن رباب المبالغ فيها مع إضافة بعض الترتر والفتحات في باقي الجلابية، انبهرت رباب بالجلابية وقالت "الراجل نبيل دا شاطر أوي.. انا حاسة اني هقدم نمرة محصلتش"، أرجعت البدلة للأسطى نبيل مقابل ألفى جنيه، اشتريت كتبي وعلاج أمي وأعطيتها ما تبقى ومازلت أعمل لديها ومازالت مقتنعة بأن جلابية أمي من أفضل بدلات الرقص لديها. الرقص حالياًّ يصرف على كتب المحاسبة والرياضيات، و تم إنقاذي من الرسوب وإنقاذ أمي من الموت بمرض السكر بثمن بدلة رقص.