البرنس المفلس
الإثنين 05/يوليو/2021 - 02:45 م
كأن الرصاص لغة العاطفة، التي لا تسلم من الأذى إلا حين يُراق على جوانبها الدم.
بطل الأحداث التالية هو الأمير أحمد سيف الدين، نجل الأمير إبراهيم، الذي كان بدوره ابن الأمير أحمد رفعت باشا ابن إبراهيم باشا ابن محمد علي. شابٌ رفيع، طويل القامة، يتمتع بقدرٍ من الوسامة، عصبي المزاج.. كان من أكثر أمراء العائلة المالكة المصرية إثارةً للضجيج في القرن التاسع عشر، مع أنه لم يتولَ أي منصب رسمي في حياته داخل القصر الملكي أو خارجه.
ولد أحمد سيف الدين في مصر عام 1878، وقد أرسلته والدته نوجوان هانم التركية الأصل وهو في الثامنة من عمره إلى تركيا، حيث تلقى العلم في المكتب السلطاني في الآستانة.. وعندما عاد إلى مصر توفي أبوه، فأصبح عمه الأمير كمال وصيـًا عليه إلى أن بلغ سن الرشد، فتسلم ثروته.. وكان يعيش في قصر والده .
الطرف الثاني من القصة هو الأمير أحمد فؤاد، الذي أصبح السلطان فؤاد من 1917 إلى 1922، ثم "صاحب الجلالة الملك فؤاد".. والد الملك فاروق الأول.
كان أحمد فؤاد سادس أبناء الخديوى إسماعيل. ولد عام 1868، وكانت والدته هي الأميرة فريال هانم هي الزوجة الثالثة للخديوى.. وعند بلوغه السابعة من عمره ألحقه والده بالمدرسة الخاصة في قصر عابدين والتي كان قد أنشاها لتعليم أنجاله، واستمر بها ثلاث سنوات، وفيها أتقن مبادئ العلوم والتربية العالية.. بعد عزل والده الخديوى إسماعيل سنة 1879 صحبه معه إلى المنفى في إيطاليا.. التحق بالمدرسة الإعدادية الملكية في مدينة تورينو الإيطالية، فاستمر بها حتى أتم دراسته، ثم انتقل إلى "تورين الحربية" وحصل على رتبة ملازم في الجيش الإيطالي، وألحق بالفرقة الثالثة عشرة (مدفعية الميدان).. وانتقل بعد ذلك مع والده إلى الآستانة بعد شرائه سراي مطلة على البوسفور، وعُيّن ياورًا فخريـًا للسلطان عبدالحميد الثاني، ثم انتدب بعد ذلك ليكون ملحقـًا حربيـًا لسفارة الدولة العليا في العاصمة النمساوية فيينا.. عاد إلى مصر سنة 1890، وتولى منصب كبير الياوران، وتدرج في المنصب حتى أصبح ياورًا للخديو لمدة ثلاث سنوات.
وعند وفاة السلطان حسين كامل رفض ابنه الأمير كمال الدين حسين أن يخلفه، فاعتلى فؤاد عرش مصر بدلًا منه.
بين الأميرين أحمد سيف الدين وأحمد فؤاد، تقف امرأة: الأميرة شويكار، شقيقة الأول وزوجة الثاني.
وتُظهِر وقائع الحادثة التي نحن بصددها أحد وجوه الصراع بين فرعين من فروع العائلة المالكة على المال والنفوذ.. وبالرغم من أن الأمير أحمد فؤاد، أو "البرنس فؤاد" كما كان يطلق عليه في تلك الأيام كان سليل الحكام، باعتباره أصغر أنجال حاكمٍ شهير هو الخديو إسماعيل، وحفيد حاكمٍ أشهر هو محمد علي باشا الكبير، فإن شخصية البرنس أحمد فؤاد في الواقع كانت نموذجـًا للشاب المستهتر.
يرسم الكاتب صلاح عيسي صورة "البرنس فؤاد" في تلك الأيام قائلًا: "في تلك الأيام، وبالتحديد في عام 1895 كان البرنس أحمد فؤاد في السابعة والعشرين من عمره.. وكان معروفـًا آنذاك في أوساط العائلة المالكة بأنه شابٌ مفلس كثير الاقتراض، مقامر، سكير، وهي شهرةٌ تعدت الأوساط الملكية لتصل إلى رجل الشارع العادي، الذي كان يصف البرنس فؤاد بأنه "شمام"، وهو تعبيرٌ يصف تدهور أحواله العامة وافتقاره للاحترام الاجتماعي".
كان بتعبير المرحوم بيرم التونسي "مقامرًا لا ترحب به أندية القمار"؛ لأنه مفلس ولا يسدد ديون اللعب، وكان يركب الحنطور ولا يدفع لحوذي عربة "الحنطور" أجرته، ويطرق منازل أصدقائه ليلًا ويطلب الطعام.. وبدا هذا كله طبيعيـًا لأنه ابن الخديوى إسماعيل.
وكما يقول الأديب يحيى حقي، فإن الفرع الذي ينتمي إلى إسماعيل من سلاطين وملوك أسرة محمد علي فرعٌ شرهٌ إلى المال بدرجةٍ مرعبة، فمن تولى منهم العرش: توفيق وعباس حلمي وحسين كامل وفؤاد وفاروق، كانوا لصوصـًا مشهورين، وكان شرههم الأساسي للأرض.. يبذلون الجهد للاستيلاء عليها بأي سبيل، حتى لو كان هذا السبيل هو اغتصاب الأوقاف الخيرية والأهلية.. بل إنهم لم يتعففوا حتى عن السرقات الصغيرة.
والسبب في ذلك معروف، فقد انتقلت أملاك الخديوى إسماعيل إلى ملكية الدولة بموجب قانون التصفية الذي صدر قبل عزله عن العرش، تسديدًا للديون الشخصية التي كان قد اقترضها من الأجانب.
وبهذا لم يترك لأولاده ثروات موروثة تكفيهم للحفاظ علي هيبة الإمارة، فأصبح هم كل الذين جلسوا على كرسي العرش من بعده أن يستردوا الميراث الذي استولت عليه الدولة -في رأيهم- دون وجه حق.. ويكفي للتدليل على هذا أن البرنس فؤاد لم يرث عن أبيه سوى 800 فدان فقط.. واستطاع بعد توليه العرش أن يصل بها إلى 35 ألف فدان بالإضافة إلى 45 ألف فدان من أراضي الأوقاف، وثروة نقدية لا تقل عن أربعة ملايين جنيه.